عربي

من النتيجة إلى السبب: صناعة القرارات المرنة [رأي]

English

من النتيجة إلى السبب: صناعة القرارات المرنة [رأي]

اختيار المسار يمكن أن يكون صعباً. (الصورة من alittlestarlette.wordpress.com)

نشر هذا المقال أساسًا على "ميديوم" Medium.

لقد حالفني الحظ بحضور دورة "لين لونش باد" Lean LaunchPad التعليميّة مع ستيف بلانك في "كلية هاس للأعمال" Haas Business School في بيركلي، حيث تعلّمتُ تنمية وتطوير قاعدة العملاء Customer Development، ومنهجيّةً منظّمة للتعامل مع الأفكار الرياديّة التي تؤدّي إلى شركات ناشئة، بالإضافة إلى البحث عن نموذج عملٍ مربحٍ وقابلٍ للتكرار.

بشكل أساسي، تشير هذه الدورة إلى أنّ الطريقة المثاليّة لتحقيق النجاح تعتمد على اختبار الفرضيات (‘خارج الأطر التقليدية‘)، والتعلّم والتكرار، قبل تضيع الوقت والأموال.

وفي الإطار عينه، ولكن بمقاربةٍ مختلفة، تظهر فكرة طوّرتها شركة "جوجل" Google واعتمدتها باسم "ديزاين سبرينت" Design Sprint، وهي عمليّة تصميم تساعد على التعلّم بسرعة من دون بناء منتَجٍ أو إطلاقه.  

من جهتي، أعتقد أنّ المقاربتين تكمّلان بعضهما، إذ كنتُ لأستخدم "ديزاين سبرينتس" لتكرار العمليّة سريعاً، والبحث عن سوقٍ للمنتَج من خلال نماذج منخفضة الجودة (الدورة تتطلّب أسبوعاً واحداً فقط). من ثم، كنتُ لأستخدم مقاربة تنمية العملاء للتأكّد من جوانب نموذج العمل الأخرى من أجل تحقيق برنامج عملٍ ناجح وجاهز للمباشرة به (تتطلّب حوالي 10 أسابيع).

التأكيد يتطلّب انضباطاً ذاتيّاً

فيما تقوم المقاربتان على الشركات الناشئة والمنتج، تبقى النقطة الأساسيّة فيها التحلّي بالانضباط الذاتي للالتزام بمبادئها.

لقد اختبرتُ ذلك شخصّياً خلال دورة ستيف بلانك التعليميّة حيث أنّ فريقي أراد، بعد أسبوعين فقط من بدء الدورة، المباشرة بتطوير البرمجيّة وبناء المنتَج، فيما كان يتوجّب علينا أن نحدّد كم عميل سيطلب هذا المنتَج أو يحتاج إليه قبل كتابة سطر واحد من البرمجيّة. وهذه الفكرة عينها هي وراء "ديزاين سبرينتس" أيضاً.

من المنطقي التأكّد من الفرضيات قبل الالتزام بمشروعٍ طويل الأمد، لكنّ تحقيق ذلك بالطريقة المناسبة أمرٌ فائق الصعوبة ويتطلّب دقّة عالية. ويعود ذلك إلى ثلاثة عوامل: الغرور الفردي (المشروع ناجح لأنني أعتقد ذلك)، والتسكّع الاجتماعي social loafing (المشروع ناجح لأن مؤسّسه يقول ذلك)، والتحيّز للمجموعة (المشروع ناجح لأننا نعتقد ذلك).

كلّ من هذه المنهجيّات مصمّمة لإضفاء هيكليّة ووضوح في الأفكار بطريقة فعالّة وتلقائيّة، كما أنّها مصمّمة لتحمي متّخذ القرارات من تكلفة الانحياز الكبيرة.

بطبيعتها، لا تأتي "مرحلة التفكير" بالراحة لمتّخِذ القرار، إذ أنّها مليئة بما هو مجهول. لذلك، يحاول تقليصها أو تخطّيها والانتقال إلى "مرحلة العمل" التي تعيدنا إلى المكان الذي نعمل فيه بانسيابية ونرتاح فيه.

تطبيق مفهوم القرار المرن lean decision في العالم الواسع

في هذا الإطار، أقترحُ نموذجاً لصياغة القرار المرن من أجل اتّخاذ القرارات الاستراتيجيّة.

ومن هذه القرارات: ما المجال الذي أريد أن أعمل فيه؛ هل يجب أن أسعى للحصول على ماجستير في إدارة الأعمال، أو شهادة الدكتوراه؛ أو أن أنشأ شركة أو أنضمّ إلى شركة، وإذا أردتُ الانضمام، ما نوع الشركة؟ وهل هي في مرحلة أوليّة؟ أو مرحلة متقدّمة؟ أو أنّها شركة عامة؟ وفي أيّ مجالات تعمل؟

من المهم ملاحظة الفرق بين القرارات الاستراتيجيّة والقرارات التكتيكيّة اليوميّة أو الأسبوعية، إذ أنّ القرارات الاستراتيجيّة تؤدّي إلى تجربة طويلة تتطلّب الوقت والموارد والجهود. ولأنّ الوقت ثمين، تفرض هذه القرارات سؤالين أساسيين:

1-  لماذا عليّ خوض هذه التجربة؟ ما هو الهدف النهائي؟ وماذا أتوقّع منها؟

2-  كيف أختار أيّ تجربة تعود علي بعائدٍ أكبر على الاستثمار؟ وهذا السؤال يكمّل السؤال الأول.

في تنمية القرارات المرنة، أنصح بمرحلة التفكّر الذاتي Introspection Phase أوّلاً (إيجاد ما يناسبني شخصيّاً)، من ثمّ مرحلة البحث والتحضير Inquisitive Phase من خلال ‘الخروج عن الأطر التقليديّة‘ واختبار العمليّة بطريقٍة شاملة في وقت قصير لفهم ما سيأتي في نهاية المشروع قبل الالتزام به.

مرحلة التفكّر الذاتي: توظيف القيم في الاتجاه الصحيح، ومن ثمّ المباشرة بهذا الاتجاه. في هذه المرحلة ترتبط المساءلة الأساسية بالسبب الذي يدفع المرء للبدء بهذا المشروع. ويكون التركيز فيها عليّ كفرد، على طموحاتي ونظام قيمي، على ما أجيده وعلى ما أحبّه. فهو الدافع والهدف من مسيرتي.

مرحلة البحث والتحضير من خلال اختبار العمليّة بطريقةٍ شاملة: تخيّل أن المشروع انتهى، وماذا بعد؟ كتمرينٍ للفكر، أقترحُ إقامة فرضياتٍ عمّا سيحصل في نهاية المطاف، والتأكّد من هذه الفرضية من خلال أبحاثٍ تحضيريّة وتحقيقاتٍ خارج الأطر التقليديّة ومن بعدها أتأكّد ما إذا كانت النتائج تطابق التوقّعات.

تبدأ هذه المرحلة بالأبحاث في المصادر الأوليّة، وهي تفرض طرح الأسئلة على الأشخاص المناسبين، والقراءة والبحث حتّى الاقتناع بناءً على الأدلّة بأنّ المشروع يستأهل الاستثمار.

لنفترض على سبيل المثال أنّني أريد العمل في الأمم المتحدة؛ لتحقيق ذلك عليّ أن أدفع 150 ألف دولار وأمضي سنتين في التحضير لماجستير في إدارة الأعمال MBA لأنّني سمعتُ أنّ هذه هي شروط قبول التوظيف. ولكن قبل اتخاذ هذه الطريق، من الأفضل أن أسأل الموارد البشرية في الأمم المتّحدة عن صحّة هذه الشروط.

يقوم الهدف من هذه المرحلة على التأكّد من افتراضات المرء من خلال الإجابة على الأسئلة التالية: 1) هل هذا فعلاً ما أريده؟ 2) هل أنا على اطلاع بالمخاطر؟ 3) هل جمعتُ المعلومات المناسبة قبل المباشرة بهذا المشروع؟ 4) هل أعلم ما الدعم (الأشخاص، المعلومات، الموارد) الذي سأحتاج إليه؟  5) هل التمستُ الحدود بين المعلوم والمجهول، بينما هو مجرّب وما هو غير مجرّب؟

وقت اتخاذ القرار Decision Time: بناء الفرضية المدروسة جيداً. من المرجّح أن أختار القرار الأنسب نظراً للمعلومات التي اكتشفتُها بطريقةٍ فعّالة حول أيّ طريق أسلك من بين الخيارات المتاحة لي. وبعد اتخاذ القرار، يحين الوقت للتوقف عن المماطلة والمباشرة بالعمل.

مرحلة العمل Doing Mode: لقد اتّخذتُ قراري والتزمتُ باستثمار مواردي للوصول إلى مرحلةٍ ما. في حين تُخصّص أغلب الموارد للتنفيذ وزيادة القيمة واكتشاف معلومات جديدة من خلال التجربة، يجب تخصيص جزءٍ صغيرٍ من الموارد لاكتشاف كيف يتغيّر العالم وكيف يؤثّر ذلك على رحلتي الرياديّة.

التفكير Reflection: في مرحلة العمل، أكتشف معلومات جديدة وأكتسب معرفة جديدة؛ كما أزيد من قيمة المنتَج أو الخدمة وأُحدِث تقدّماً، ولكن هل أسير في الاتجاه الصحيح؟ وما هو "الصحيح"؟

هل هذا الاتجاه الذي اخترتُه في مرحلة التفكّر الذاتي؟ هل أنا واثق منه؟ أو من المستحسَن أن أعيد النظر فيه فيما أكتسب خبرة ومعرفة أكثر؟ هل أثابر في اتجاهي أو أغيّر؟ هنا عليّ أن أخرج من مرحلة العمل وأعود إلى مرحلة اتّخاذ القرار لأفكّر.

في سياق صناعة وتطوير القرارات المرنة، يجب أن يتوافق التركيب الهرمي للمعلومات مع الاتجاه الذي أعمل فيه والمكان الذي أطمح للوصول إليه. هل ما زلتُ أعمل بهذا الاتجاه، وهل أنا وفيّ للسبب الذي بدأتُ من أجله رحلتي الرياديّة، كيف أتقدّم، كيف تسير الأمور، هل يجب أن أغيّر، أن أحسّن، هل أعدّل اتجاهي. هذه التساؤلات لا تنتهي أبداً وهذا أمرٌ طبيعي.

Thank you

Please check your email to confirm your subscription.