English

في خضم حرب باردة تكنولوجية

English

في خضم حرب باردة تكنولوجية
Image courtesy of Shutterstock

تركت خطوة الحكومة الأمريكية في الأسبوع الماضي العديد من الناس يتساءلون عن استمرار عمل هواتفهم الذكية من "هواوي" والتي تعمل بنظام "اندرويد". أصبح عملاق الاتصالات الآسيوي الهدف الأحدث في الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، فقد أدرجت الحكومة الأمريكية الشركة الصينية – ضمن ثمانية وستين كيان آخر – على القائمة السوداء للتصدير، والتي تُسمى "بقائمة الكيانات"، ومنعتها من شراء السلع والخدمات الأمريكية.

 

وليست هذه بالمرة الأولى لاتهام صُناع السياسات الأمريكية "هواوي" بالتجسس لصالح الحكومة الصينية، حيث يتجاوز هذا الحظر سياسات الحماية الاقتصادية إلى عالم السياسة الدولية حيث تتصارع القوتان العظميان للهيمنة على الاقتصاد العالمي.

 

بدون حل، ستزيد هذه الخطوة من مخاطر تفكك شبكة الانترنت، وستضطر الحكومات في جميع أنحاء العالم، بما فيها في الشرق الأوسط، للانحياز إلى أحد الطرفين.

 

فيما منعت بعض الدول وطيدة العلاقة بالولايات المتحدة مثل استراليا بالفعل شركة "هواوي" من بناء بنيتها التحتية للاتصالات، أبدت دولاً أخرى استعداداً أقل نحو ذلك، نظراً للقدرات الرائدة للشركة في تكنولوجيا شبكات الجيل الخامس، والتي من المتوقع أن تكون عامل التمكين الرئيسي العديد من الابتكارات مثل التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي وشبكة انترنت الأجهزة.

 

كانت شركة "هواوي" أول شركة صينية تخطو نحو توسع عالمي حقيقي بعد تبني الحكومة الصينية التوجه الرأسمالي. توسعت الشركة في جميع أنحاء العالم، وأسست وجوداً قوياً في منطقة الشرق الأوسط وقارة أفريقيا، وتتمتع بثاني أكبر حصة لبيع الهواتف الذكية في الأسواق المحلية والعالمية مباشرة بعد شركة "سامسونج" الكورية الجنوبية. كما لعبت الشركة دوراً فعالاً في بناء البنية التحتية للاتصالات في معظم دول الشرق الأوسط مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والبحرين.

 

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: أين يقف الشرق الأوسط من هذه الحرب الباردة التكنولوجية الجديدة التي بدأت تتكشف؟

 

في القرن الماضي، ركزت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي السابق على سباق التسلح النووي ومن بعده سباق ريادة الفضاء الخارجي. بيد أن حرباً باردةً جديدة برزت على الساحة بين الولايات المتحدة والصين هذه المرة، تتمحور حول سباق الابتكار التكنولوجي.

 

بينما كانت الولايات المتحدة الأمريكية تنفق ترليونات الدولارات على حروبها في العراق وافغانستان، انشغلت الصين بالابتكار وبناء قدراتها الصناعية، وبدلاً من انتاج "سلعاً صينية رخيصة"، فإنها الآن تنتج منتجات صينية أرخص وبجودة تنافسية عالمية.

 

تحتل شركة "هواوي" صدارة الابتكار التكنولوجي، وعلى مدار العشر سنوات الماضية، استثمرت الشركة خمسة وأربعين مليار دولار في مجال البحث والتطوير، أُنفق منها ثلاثة عشر مليار دولار في عام ٢٠١٧ وحده. وتعد الشركة خامس أكبر منفق على مستوى العالم في مجال البحث والتطوير، متجاوزة بذلك شركات عديدة مثل "آبل" و"انتل" و"جنرال الكتريك"، وخصصت ملياري دولار لأبحاث تكنولوجيا شبكات الجيل الخامس للاتصالات اللاسلكية.

 

ومن أهم ابتكارات الشركة هاتف P30 الذكي الذي أطلقته هذا العام بسعر يقارب ٧٠٠ دولار وبمواصفات عالية للغاية تمكنه من منافسة هواتف "جالاكسي" من "سامسونج" و"آيفون" من "آبل". ولكن على ضوء التطورات الأخيرة، هل سيخاطر المستهلكون بشرائه؟ من جانبها أكدت شركة "جوجل"، مطور نظام التشغيل "اندرويد"، أنها يتواصل تقديم خدماتها لحائزي أجهزة "هواوي" الحاليين، ولكنها لن تدعم الأجهزة الجديدة.

 

وقد صرح يو تشنغ دونغ، الرئيس التنفيذي لخدمة المستهلكين بشركة "هواوي"، بأن الشركة قد طورت بالفعل نظام التشغيل الخاص بها، والذي سيكون متاحاً في أوائل عام ٢٠٢٠ إذا ما رفضت الولايات المتحدة سحبها من قائمة الكيانات. ولا تشكل تصريحات "جوجل" أي مشكلة بالنسبة للمستهلكين الصينيين لأن خدماتها غير متوفرة بالسوق المحلي، ولكن يختلف الأمر تماماً للمستهلكين في الشرق الأوسط لأن نظامي التشغيل "اندرويد" و"آبل" هما المهيمنان. إذا طورت "هواوي" نظام التشغيل ومتجر التطبيقات الخاصين بها، فسيكون للمبرمجين نظام تشغيل آخر لخدمته، وسيضطر مفضلي أجهزة "هواوي" للتخلي عن خدمات "جوجل" مثل "جوجل ميل" و"اليوتيوب" ومحرك البحث "جوجل"، أو لاختيار البدائل صينية الصنع.

 

بما أن أكثر من نصف إيرادات شركة "هواوي" تأتي من الصين، فقرار المستهلك في الشرق الأوسط قد يؤدي الى تراجع بسيط لإيرادات الشركة. لكن الأمر الأهم هو استمرار ثقة حكومات الشرق الأوسط في تكليف الشركة بالاشتراك في تطوير البنية التحتية لشبكات اتصالات الهواتف النقالة الخاصة بها.

 

يلعب الاستقرار السياسي والتفضيلات الأيديولوجية في منطقة الشرق الأوسط دوراً مهماً في الاقتصاد العالمي بصفتها المورد الرئيسي للطاقة في العالم، ونظراً لموقعها الاستراتيجي والأراضي الغنية بالموارد كانت المنطقة طوال تاريخها مسرحاً للصراع العالمي، حيث حاولت الإمبراطوريات والقوى العظمى إما غزوها أو التقرب منها للحصول على الدعم السياسي والإيديولوجي والاقتصادي.

 

وفي الآونة الأخيرة، حاولت الصين التقرب من الشرق الأوسط ونجحت في ذلك. وبحسب المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات، تعد الصين الآن أكبر مستثمر في المنطقة، وتمتلك ما يقرب من ثلث أسهم الاستثمار الأجنبي المباشر في العالم العربي.

 

ووفقاً لشركة الاستشارات McKinsey & Co. من المتوقع أن ترتفع نسبة العمليات التجارية بين الصين والشرق الأوسط لتصل إلى ٥٠٠ مليار دولار بحلول عام ٢٠٢٠، متجاوزة بذلك قيمة التجارة الحالية التي تصل الى ٣٠٠ مليار دولار.

 

ومن بين العوامل المحركة للنمو في هذه الشراكة كانت مبادرة الحزام والطريق الصينية التي أطلقتها في عام ٢٠١٣، وهي مبادرة تهدف إلى بناء الطرق والموانئ والسكك الحديدية والبنى التحتية الأخرى بواسطة الصين عبر شمال إفريقيا، وهي فكرة الطريق الحريري التجاري الجديد باستثمارات صينية تصل إلى ترليون دولار.

 

وفي فبراير/ شباط من هذا العام، وافقت المملكة العربية السعودية على إدراج لغة الماندرين في المناهج الدراسية في جميع مراحل التعليم الدراسية وذلك بعد اجتماع بين ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ووفد صيني رفيع المستوى. ويهدف القرار إلى تعزيز التعاون الثنائي وزيادة فرص العمل المشترك على المدى الطويل.

 

تعتمد الصين على علاقاتها التاريخية بالمنطقة، حيث تعيد رسم طرق التجارة القديمة للعصر الحديث وإعادة إحياء حضارة شرقية تدعمها أحدث التقنيات. وهو مقترح أكثر جاذبية بالنسبة للكثيرين في المنطقة على الرغم من اتهامات التجسس مقارنة بالجري وراء رغبات الولايات المتحدة بسبب تاريخها الحديث في الشرق الأوسط.

 

ولكن ما لا يدركه الكثيرون هو اعتماد أسواق التكنولوجيا على بعضها البعض، فلا يمكن لأي دولة عظمى أن تربح حرباً اقتصادية أو تجارية تحركها التكنولوجيا دون أن تضر اقتصادها. لذلك فإن منع "هواوي" من شراء السلع والخدمات الأمريكية سيؤثر سلباً على الولايات المتحدة.

 

ففي مراجعة بسيطة سنجد أنه من بين سبعين مليار دولار أنفقتها شركة "هواوي" العام الماضي على شراء المكونات، ذهب حوالي احد عشر مليار دولار إلى شركات أمريكية من بينها "كوالكوم" و"انتل".

 

كما تجدر الإشارة إلى أن شركة اتصالات صينية أخرى، وهى شركة ZTE، قد أدرجت أيضاً في قائمة الكيانات في العام الماضي، ولكن تم رفع الحظر في غضون بضعة أشهر بعدما دفعت الشركة غرامة بقيمة مليار دولار، وأودعت ٤٠٠ مليون دولار كضمانة، واستبدلت مجلس إدارتها وكبار المسؤولين الإداريين لديها.

 

ستثبت الأيام اذا كانت شركة "هواوي" ستعاني من نفس المصير، ولكن إذا تمسكت الولايات المتحدة بقرارها فسوف تضطر الحكومات في جميع أنحاء العالم إلى إعادة تقييم سياسات الاتصالات الخاصة بها. وفي مرحلة ما، سيتعين على حكومات الشرق الأوسط اختيار التكنولوجيا التي تريد استخدامها، حتى لا تخاطر بخسارة سباق ثورة صناعية أخرى. وهو خيار ستحركه إما حسابات التكلفة أو الأيديولوجيا السياسية.

 

شكرا

يرجى التحقق من بريدك الالكتروني لتأكيد اشتراكك.