ماذا بعد ازدهار قطاع رأس المال الجريء في المملكة العربية السعودية؟
بعد مرور خمس سنوات من بدء تنفيذ برنامج رؤية السعودية 2030، ارتفعت استثمارات رأس المال الجريء في المملكة العربية السعودية إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق، إذ بلغت 151.9 مليون دولار جُمعت عبر 88 صفقة في عام 2020. ويمثل ذلك ارتفاعاً بنسبة 124% من عام 2018 إلى عام 2020، وهي زيادة هائلة على معدل التمويل المُسجَّل قبل الرؤية الذي كان يبلغ 7.9 مليون دولار فقط.
ويرجع معظم هذا النمو إلى عام 2018 الذي سعت فيه الحكومة إلى تمكين قطاع ريادة الأعمال وتخفيف لوائح الاستثمار الأجنبي المباشر، وأطلقت فيه صندوقين من صناديق رؤوس الأموال الجريئة، هما صندوق الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة "منشآت" المدعوم من الشركة السعودية للاستثمار الجريء، وصندوق الصناديق "جدا" المملوك لصندوق الاستثمارات العامة السيادي السعودي. وتزامن ذلك أيضاً مع قيام شركة الاتصالات السعودية بتأسيس صندوق رأس المال الجريء التقني (STV) بقيمة 500 مليون دولار، مما جعله أكبر صندوق تقني في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
يقول الدكتور نبيل كوشك، الرئيس التنفيذي وعضو مجلس إدارة الشركة السعودية للاستثمار الجريء: "إن نجاحنا الكامل يتمثل حقاً في أن تكون لدينا طائفة متنوعة من شركات رأس المال الجريء التي تتعامل مع قطاعات مختلفة ومراحل مختلفة ومناطق جغرافية مختلفة للتأكد من أنها تسد بالفعل فجوات تمويل الشركات الناشئة في شتى القطاعات والمراحل والمناطق".
وكانت الشركة السعودية للاستثمار الجريء قد تعهدت باستثمار مليار دولار في صناديق رأس المال الجريء والشركات الناشئة، وقد استثمرت حتى الآن في 17 شركة استثمارية و63 شركة ناشئة في شتى المراحل والقطاعات، منها نون أكاديمي، وهي أكبر منصة تعليمية إلكترونية في المملكة العربية السعودية. كما خصصت 10% من أموالها لشبكات المستثمرين الملائكة. والشرط الوحيد الذي تشترطه الشركة السعودية للاستثمار الجريء على مديري صناديق رأس المال الجريء هو تخصيص بعض استثماراتهم لشركات يقع مقرها في المملكة العربية السعودية.
وكان، ولا يزال، هذا النوع من الدعم الحكومي ضرورياً لنمو قطاع رأس المال الجريء في المملكة. وقد وصل الآن إجمالي عدد شركات رأس المال الجريء السعودية النشطة، سواء الخاصة أو الحكومية، إلى 40 شركة، ويوجد معظمها في المنطقتين الوسطى والشرقية.
يقول تركي الجعيب، المؤسس المشارك والشريك الإداري في صندوق رؤى للنمو: "ظلت الولايات المتحدة المتحدة تستثمر في البيئة الحاضنة التكنولوجية لمدة 50 عاماً، إن لم يكن أكثر. وابتكر وادي السليكون مفهوم الاستثمار الجريء، ولكنه مفهوم جديد نسبياً هنا في المملكة العربية السعودية. ولكن يوجد دعم كبير من الحكومة، مما فتح الطريق أمام فئة أصول الاستثمار الجريء وجعله من الموضوعات المثيرة التي يريد الجميع المشاركة فيها حينما يرون شركتي "كريم" و"جاهز" في السعودية، على سبيل المثال".
ويرى راكان طاشكندي، مؤسس شركة فلو فينتشرز التي يقع مقرها في الرياض، أن المشاركة الحكومية تمنح المستثمرين الثقة في "الاستثمار الجريء في الشركات الناشئة ودعم البيئات الحاضنة". وأضاف راكان: "يمكنك أن ترى كثيراً من مكاتب إدارة الثروات العائلية والمشروعات تريد أن تلحق بهذا الركب، إنه أمر جيد، إذ يُظهر الثقة وسبيل المضي قدماً".
وعلى الرغم من أن شركات رأس المال الجريء السعودية لا تزال تواجه إجراءات تنظيمية معقدة عند محاولة تسجيل الشركات محلياً، فإن الوتيرة السريعة التي تعمل بها الهيئات الحكومية على تحديث الإطار التنظيمي، بل ورفع الضوابط التنظيمية، لإرضاء كل من الشركات الناشئة وشركات رأس المال الجريء تؤدي إلى تحقيق نتائج جيدة تساعد المملكة على اللحاق بالأطراف الرئيسية الفاعلة في سوق رأس المال الجريء، على حد تعبير الدكتور نبيل كوشك.
وقد عاد كل ذلك بالنفع على البيئة الحاضنة للشركات الناشئة في المملكة العربية السعودية التي أصبحت أسرع أسواق رأس المال الجريء نمواً في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وفي شهر نيسان/ أبريل الماضي، حظيت الشركات الناشئة في السعودية على أكبر استثمارات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بقيمة إجمالية بلغت 122 مليون دولار، وكان أبرزها شركة تمارا التي تعمل في مجال التقنية المالية وتوفر لعملائها خيار الشراء الآن والدفع لاحقاً، إذ حصلت على تمويل قدره 110 ملايين دولار في الجولة التمويلية الأولى بقيادة شركة Checkout.com البريطانية.
وينصب اهتمام المستثمرين حالياً على قطاع التكنولوجيا المالية الذي شهد نمواً في عدد الشركات الناشئة المسجلة التي بلغ إجمالي عددها 155 شركة في عام 2020، بعد أن كانت 10 شركات فقط في عام 2018. وفي الربع الأول من هذا العام، حصلت الشركات الناشئة العاملة في مجال التكنولوجيا المالية بالمملكة العربية السعودية على استثمارات تزيد على 127 مليون دولار، وهي قفزة هائلة مقارنة بما حصلت عليه هذه الشركات في الفترة من عام 2015 إلى عام 2020، وهو 23 مليون دولار.
أوجه القصور
لكن على الرغم من هذا النمو، لا يزال يوجد نقص في رؤوس الأموال الجريئة والاستثمارات المُوجَّهة إلى قطاعات مثل التكنولوجيا التعليمية والتكنولوجيا الزراعية، كما ذكر علي أبو السعود، المؤسس والشريك الإداري في صندوق هلا فنتشرز الذي يقع مقره في مدينة الخُبَر.
يقول أبو السعود: "لا أعتقد أن هناك عدداً كبيراً جداً من شركات رؤوس الأموال الجريئة في السعودية، نعم العدد آخذ في الازدياد، لكن إذا تحدثت عن العرض مقابل الطلب، فلن أقول إن السوق مشبعة. لا تزال السوق خاماً بعض الشيء، وستجد قطاعات معينة تجري تغذيتها بالاستثمارات لأن المستثمرين يفهمون هذه القطاعات، ولكن لا تزال توجد قطاعات أخرى غير مُموَّلة. وتنتج عن ذلك فجوة، لأنه بغض النظر عن عدد المستثمرين الجريئين في السوق، فإنه لا يزال غير كافٍ لتغذية جميع الشركات الناشئة."
ويوجد أيضاً نقص في تمويلات مرحلة النمو لأن الإطار التنظيمي لمثل هذا الاستثمارات قد يبدأ في التعقد في تلك المرحلة. "وفي بعض الأحيان، سوف يتعين على أصحاب رؤوس الأموال الجريئة في مرحلة لاحقة أن تكون بعض شركاتهم مُسجَّلة في ولايات قضائية محددة"، على حد تعبير الدكتور نبيل كوشك الذي يسلط الضوء على اعتراف أصحاب رؤوس الأموال الجريئة بوجود فجوة في تمويلات المراحل المتأخرة. ولذلك فإن الشركة السعودية للاستثمار الجريء تدعم حالياً كلاً من صندوق هلا فنتشرز وصندوق رؤى للنمو اللذين يقدمان تمويلات بمبالغ كبيرة لمساعدة الشركات على التوسع.
ويرى الدكتور نبيل كوشك أن جزءاً من المشكلة يكمن أيضاً في قلة الصفقات التي تُعقد في مختلف القطاعات، وهو ما تتطلع الشركة السعودية للاستثمار الجريء إلى حله من خلال تمويل «بُناة الشركات». فيقول: "إننا ندعم الصناديق التي تدعم تدفق الصفقات، مثل الصناديق التي تدعم مُسرِّعات الأعمال واستوديوهات الشركات الناشئة أو أي برنامج يساعد على تدفق الصفقات لتعزيز تدفق صفقات رؤوس الأموال الجريئة في المراحل المبكرة والمتأخرة".
التوسع خارج الحدود السعودية
نظراً إلى تزايد ثقة أصحاب رؤوس الأموال الجريئة السعوديين وتطلعهم إلى عقد صفقات في أماكن أخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وخارجها، من المرجح أن يكون لهم دور أكبر في جميع أنحاء المنطقة. فيُركِّز صندوق هلا فنتشرز على الاستثمار في دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن مع اهتمام خاص بجولات الاستثمار في المرحلة المبكرة ومرحلة النمو، وذلك بتمويل من كل من صندوق الصناديق "جدا" والشركة السعودية للاستثمار الجريء. وتضم حالياً محفظة رؤوس الأموال الجريئة 13 شركة ناشئة في مختلف القطاعات، منها شركة تمارا السعودية الناشئة التي تعمل في مجال التكنولوجيا المالية، ومنصة إيفنتوس لإدارة الفعاليات في دبي، ومنصة لمسة التعليمية في أبو ظبي.
يقول أبو السعود: "عندما قررنا إطلاق هذا الصندوق، كانت منطقتنا الرئيسية وهدفنا هو دول مجلس التعاون الخليجي، ولكن في ظل سجلنا الحافل وما نراه، ما زلنا نعتقد أن مصر والأردن سيصبحان على قدر كبير من الأهمية عندما يتعلق الأمر بتدفق الصفقات واكتساب أصحاب المواهب وعوامل أخرى".
ويتوافق الاهتمام بالتمويل على المستوى الإقليمي أو حتى الدولي مع الأنماط الاستثمارية التي تتبعها الهيئات الحكومية في المملكة العربية السعودية. فها هو الاستثمار الدولي في المملكة العربية السعودية، الذي لم يكن يمثل سوى 3% من أصول صندوق الاستثمارات العامة الخاضعة للإدارة في عام 2017، قد قفزت نسبته الإجمالية إلى 30% في عام 2021، وتوسَّع في مناطق في شتى أنحاء أمريكا الشمالية واللاتينية وأوروبا وغيرها. كما أن صندوق الاستثمارات العامة هو المستثمر الرئيسي في صندوق رؤية سوفت بنك الذي يقع في المملكة المتحدة ويركز على التكنولوجيا، وهو أكبر صندوق لرأس المال الجريء يركز على التكنولوجيا في العالم، بقيمة 45 مليار دولار.
ويوضح الدكتور نبيل كوشك أن الشركات السعودية الناشئة إذا كانت تسعى إلى أن تصبح شركات سريعة النمو، فإن صعودها في اقتصادها المحلي لا يكفي لتحقيق هذا القدر من الهيمنة على السوق. ومن ثم فإن التوسع في شتى أنحاء المنطقة أمر لا غنى عنه، وقد أدى ذلك إلى اضطرار أصحاب رؤوس الأموال الجريئة إلى الاستعاضة عن الصناديق "التي تركز على البلد" باستثمارات "تركز على المنطقة".
يقول الدكتور نبيل كوشك: "أعتقد أن هذا القطاع عابر للحدود بطبيعته. فلن تنجح معظم شركات رأس المال الجريء بدون أنشطة تشمل عدة بلدان، بأن يكون الشركاء المتضامنون ومديرو الصناديق من بلدان مختلفة، أو أن يكون الشركاء الموصون الذين يستثمرون في هذه الصناديق من بلدان مختلفة ... ونحن نرى بعض هذه الصناديق تساعد بالفعل الشركات السعودية على التوسع إقليمياً وعالمياً، وتساعد أيضاً الشركات الإقليمية على التوسع في المملكة العربية السعودية".