سياسة الريادة تركّز على النموّ لا على التأسيس
أعيد نشر المقال نقلاً عن مدوّنة مجلّة هارفرد لإدارة الأعمال (Harvard Business Review Blog)، تاريخ 30/11/2012.
للإضطلاع على المزيد حول النمو ودور الحكومة في دعم الريادة، راجع آخر مقابلة أجريناها مع دان أيزنبرج.
هل تخصّصون المزيد من موارد المجتمع لدعم إنجاب عدد أكبر من الأطفال أم لتربيتهم تربية حسنة؟ تخيّل الأمر عينه ينطبق على إنشاء المؤسسات وعلى تحديات النمو الإقتصادي. على قيادات المجتمع في هذه الحالة أن تعيد توازن سياسات دعم الريادة وأن توجّهها نحو التطوّر وليس الإكتفاء بالتأسيس.
نشهد منذ سنوات قليلة تحوّلاً عالميًّا كبيرًا على صعيد السلوك والتصرّفات إزاء الريادة في كافّة بلدان العالم، ما ينعكس على مستوى تكاثر برامج دعم الشركات الناشئة الهائل: "ستارتب أميريكا" Start-up America، "ستارتب شيلي" Start-up Chile، "ستارتب روسيا" Start-up Russia، "ستارتب بريطانيا" Start-up Britain، "ستارتب ويك أند" Start-up Weekend، واللائحة تطول... حتى أمسى تعبير "شركة ناشئة" يحلّ محلّ "السيليكون" أي وادي السيليكون ويهيمن على عالم الريادة، فلا يخلو بلد أو مدينة من برنامج لدعم الشركات الناشئة.
لسوء الحظّ، يتحكّم بهذه الرؤيا تصوّر محدود ضيّق بأنّ الريادة عبارة، أوّلاً وآخرًا، عن تأسيس شركة ناشئة. ليس من الخطأ موازاة الريادة بالتأسيس، إلاّ أنّ المعادلة تبقى غير مكتملة، بل إشكاليّة، بسبب رسالتين مضمرتين خاطئتين هما: أوّلاً، أنّ مهمّة الريادي الأصعب والأهمّ تكمن في مجرّد إطلاق مشروعه؛ وثانيًا، أنّ "الخير في الوفرة"، إن صحّ القول، أي أنّه كلّما ازداد عدد الشركات الناشئة، كلّما كان البرنامج المعني ناجحًا. باختصار، باتت الكميّة تفوق ضمنيًّا النوعيّة.
كلتا الرسالتين مثيرتان للريبة. فإذا نظرنا إلى الريادة على أنها خلق لقيمة استثنائية والمحافظة عليها، وهذا ما أظنه شخصيًّا، يبدو من الواضح أنّ القيمة قابلة للإبتكار والإستدامة بطرق تختلف على أنواعها، وليس من الضروري أن يتمثل خلق القيمة بالبدء من الصفر عبر تأسيس شركة ناشئة. قد يستدعي خلق القيمة الإستثنائية عمليّات اكتساب، إعادة تحديد الأهداف، إعادة الهيكلة، إعادة التدوير أو إعادة إستخدام موجودات غير مستعملة كفاية أو غير مقدّرة كفاية، أو حتى، كما يقول زميلي في جامعة ستانفورد جورج فوستر: "إعادة الإنشاء". على سبيل المثال، أسست مجموعة "كاسبرسكاي" Kaspersky شركتها الشهيرة المتخصّصة في البرمجيّات المضادة للفيروسات، من خلال إعادة هيكلة مؤسسة روسية مكافحة كان أعضاء الفريق يعملون فيها. على مدى العقد المنصرم، تحوّلت رساميل البحوث إلى وسيلة فعّالة لاكتساب شركات غير مقدّرة كفاية، لكي يُضخّ فيها رأس المال والإدارة الملائمة والنمو. في حين يمكن أن يؤدي أيٌّ من المؤسسات العائلية والشركات الكبرى ومراكز التطوير والبحوث والجامعات دورًا أساسيًّا في توليد أو تحرير موجودات تزخر بالقدرات غير المستثمرة وغير المستفاد منها بعد. ومع ذلك:
لا يتحقّق خلق القيمة الإستثنائية من دون النمو، وأي مشروع ريادي في مرحلة ما بعد التأسيس يواجه تحديات كثيرة قد تتخطّى مجرّد مفهوم تحدّي التأسيس. يتطلّب النمو تطوير آلية بيع وتسويق قويّة، بناء منظّمة مكتملة عبر توظيف وإدارة مجموعات متنوّعة من الأشخاص، وإدراك سبل اكتساب مساهمات استراتيجية، كأنواع رساميل ومورّدين مناسبة. يتطلّب النمو أيضًا حجمًا هائلاً من الطاقة والتكريس والإخلاص، ناهيك عن الدهاء. في هذا السياق، يتعيّن على السياسات التي تنظر إلى المستقبل، إضافة إلى الثقافة والقطاع الخاصّ، توفير دعم أكبر لكلّ هذه المهارات والموارد.
بالفعل، عبر التمعّن في بعض الأمثلة عن برامج دعم المشاريع، من البلاد السكاندينافية إلى الشرق الأوسط وصولاً إلى أمريكا بشمالها وجنوبها، يبقى النمو الفعليّ هو التحدي الأكبر. فبعد سنتين على التأسيس ورصيد يبلغ 12 مليون دولار، لا توظّف أضخم شركة ناشئة شيليّة إلاّ ثلاثة أشخاص، وفقًا لمديرها التنفيذي هوراسيو ميلو. في بدايات الألفيّة في الدنمارك، أدّت سلسلة من برامج دعم الشركات الناشئة والإصلاحات السياسسة الشاملة إلى ارتفاع هائل في عدد المشاريع الناشئة، لكن تبيّن بعد تحليل أجري بعد خمس سنوات، أنّ معظم الشركات الناشئة تلك استقرّت واكتفت بعدد ضئيل من الموظّفين، وأنّ أقلّ من 1% منها تتوفّر فيها الشروط والمعايير الأساسية التي تجعل منها مؤسسات "قابلة للنموّ".
سياسات الشيلي والدنمارك ليس "خاطئة"، فقد ساهم هذا التحليل في إعطاء واضعي السياسات في الدنمارك دافعًا أكبر لمضاعفة الجهود من أجل حلّ مسألة النمو. والدرس الذي نستخلصه هو أنّ التطوّر والنمو أشقى بكثير ممّا يتصوّره الرياديون (والقادة السياسيون). وكما يحذّر أحد أصدقائي الرياديون: "إنّه لأمر صعب!". علينا أن نحوّل تركيزنا إلى النمو ما بعد التأسيس، لأنّ النمو لن يتولّى نفسه بنفسه. وبالعودة إلى شبه المقارنة التي بدأت بها مطلع النصّ، إنّ أي شخص مارس أبوّته أو أمومته يعرف تمامًا أنّ مسعاه الطويل والمعقّد الموجّه نحو تربية طفل سليم متعلّم ومؤدّب، أصعب بأشواط من عمليّة الإنجاب. أذكر جيّدًا ساعات التدرّب الطويلة على التنفّس خلال دروس الإعداد للإنجاب، غير أني لا أملك أدنى فكرة عن تغيير الحفاضات أو معالجة الطفح الجلدي، فكيف بالأحرى أن أكون أبًا لمراهقين! بالطريقة عينها، تبقى الموارد المجتمعيّة الضرورية لدعم الوالدين وتحضيرهم رسميًّا أو غير رسميًّا للأبوّة، أهمّ بكثير من الموارد المطلوبة للإعداد لعمليّة التوليد بحدّ ذاتها.
من هنا بدأت تدرك الشركات والحكومات أنّ برامج الشركات الناشئة التي تنجح في تفعيل ولادة المشاريع بدل نموّها، قد تجعل الوضع أسوأ لا أحسن، بسبب التحديات التي يطرحها النمو والتي قد تؤدّي إلى مشاريع راكدة أو مُبالغ في تقديرها، بالإضافة إلى فرص نموّ ضئيلة للغاية.
نستطيع إعادة توجيه سياساتنا نحو النمو بطرق مختلفة، أوّلها هيكليّة، بحيث علينا التوقّف عن الاعتبار أن استمرار الشركات الناشئة هو مؤشّر على نجاح السياسة المعتمدة، ويجب التطلّع إلى الأعمال التي تحقّق نموًّا فعليًّا. من الضروري أيضًا أن تفسح السياسات المجال أمام الفشل وإعادة التأسيس، بغية تفادي فيض من الشركات الناشئة الخالية من أي قيمة. ثانيًا، إنّ التركيز أكثر على إغناء جماعة سوق العمل المحليّة هو عنصر أساسي من عناصر البيئة الفعّالة. فأنا غالبًا ما ألتقي رياديين من بوسطن وبنغالور وبرشلونة قد نجحوا في استقطاب سوق واسعة عالميًّا، لكن يشتكون رغم النجاح من ندرة أصحاب المهارات، أكانوا موظّفين عاديين أم مدراء. لا شكّ أنّ الشركات المغامرة الناشئة، بهدف النموّ والتطوّر، هي بحاجة إلى موظَّفين وأصحاب أعمال جدد.
إضافة إلى كلّ ما ذكر أعلاه (باستثناء المقارنة التي لا تنطبق هنا)، برهنت التجربة والبيانات المتوفّرة أنّ عددًا قليلاً من الشركات الناشئة ذات نسبة عالية من النمو، قد تكفي لإنتاج كلّ منافع الريادة الإجتماعية والإقتصادية تقريبًا. لعلّ شركة ناشئة تكبر لتضمّ 100 شخص في غضون خمس سنوات هي مفيدة أكثر، للرياديين وأصحاب الأسهم والموظّفين والحكومات على حدّ سواء، من 50 شركة ناشئة تتألّف من شخصين وتعاني من ركود. في هذا الصدد، برهنت مؤسسة "إنديفر" (Endeavor) أنّ شركتين اثنتين أو ثلاثة في طور النمو كافية لإحداث وقع عظيم على عشرات الشركات التي ستتبعها، وللتأثير في الثقافة الريادية في منطقة معيّنة.
ما الأهمّ إذًا، الإنجاب أم التربية؟ الإنجاب أساسي، بطبيعة الحال، لكنّ لا يكفي وحده. ففي نهاية المطاف، إذا ركّزنا سياساتنا الريادية كلّها تقريبًا على تأسيس الشركات، نعطي بذلك أفضلية على الكمية بدلاً من النوعية.