كيف يمكن أن يستعيد الشرق الاوسط ثقافة العمل الإبداعي؟
"دوام عمل من الثامنة حتى الخامسة"، "استراحة غداء"، "عطلة نهاية الأسبوع"، و"عطلة طويلة" هي مصطلحات غير مستحبّة ورثناها من الثورة الصناعية (والتي ندين لها بأنظمتنا التعليمية الرسمية والأزمة البيئية التي نواجهها).
استبدلت الشركات الذكية هذه النظرة الميكانيكية بثقافة عمل أكثر رقياً. فعلى سبيل المثال، لا تحب الشركات مثل "فيراري" Ferrari و"بيكسار" Pixar و"آي دي إي أو" IDO أن تعتبر أنفسها مجرد أماكن عمل عادية.
في الواقع، يعود جزء كبير من نجاح هذه الشركات إلى استثمارها في موظفيها، حيث تقدم لهم فرصاً ممتازة لتطوير مهاراتهم وتنمية ذكائهم من خلال صفوف داخلية وورشات عمل ودورات تعليمية. خذوا مثلاً "جوجل" الذي يسمح لموظفيه باستغلال 20% من وقت عملهم لابتكار مشاريع جديدة وخاصة.
وبالحديث عن "جوجل"، إن سبق أن زرت مكاتب الشركة، فالأرجح أنك لاحظت أنها ديكورها مستوحى من الشخصيات الكرتونية التابعة لأفلام "حرب النجوم" Star Wars، والرسومات المستوحاة من ثقافة البوب، وطاولة الفوسبال والـ "أكس بوكس" Xbox، والأثاث الملوّن وكراسي التدليك.
يمكن رسم الصورة ذاتها عن أجواء العمل "غير المنضبطة" في مختبر الميديا في معهد ماساشوستس للتقنية. ولكن لماذا لا نجد الكثير من أماكن العمل المشابهة؟
منذ زمن طويل، كان العمل في الشرق الأوسط أكثر طبيعية للناس، ويقول سيد حسين نصر إنه "في نمط الحياة الإسلامية التقليدية لا ينفصل العمل أبداً عن الترفيه الذي بدوره لا ينفصل عن العبادة أو الدراسة". فالحرفيون وأصحاب المحلات التجارية يقضون 12 إلى 14 ساعة يومياً في أماكن عملهم التي لا تبعد كثيراً عن منازلهم. ويضيف نصر "ولكن في مكان العمل وخلال ساعات العمل الطويلة، يقضي هؤلاء جزءاً كبيراً من الوقت في الصلاة وتناول الطعام والحديث مع الاصدقاء أو حتى التوجه إلى المسجد المجاور أو المدرسة الدينية".
ونتيجة نمط الحياة المتكامل هذا، يقول نصر إن "الناس يأتون إلى البيت في المساء أقل تعباً من الموظفين الذين يقضون ثماني ساعات في مكتب أو مصنع والذين يبحثون عن الترفيه والراحة والثقافة والنشاطات التعليمية والدينية في أماكن أخرى"، والتي تصبح عندها حاجات "اصطناعية" على عكس الجوانب الطبيعية للحياة البشرية.
لا يمكنني إلا الربط بين حسّ التوحيد التقليدي وتكامل الحياة والمقاربة غير المنضبطة لمختبر الميديا، الذي يلغي الحدود بين مجالات معرفية لا تبدو مترابطة. وبالفعل يمكن إحياء نمط الحياة هذا لا بل يجب إحياؤه.
دور التعليم
في مقال نشر مؤخراً في "فايننشال تايمز" Financial Times تحت عنوان "يجب على آسيا أن تحرر نفسها من السلاسل الغربية" Asia must free itself from western chains، أسِف تشاندران ناير لاستمرار هوس واضعي السياسات الإقليمية بالأفكار الغربية ـ "تلك الأشياء التي وضعت العالم في مأزقه الحالي". وقال إن على آسيا أن تعمل ليكون مستقبلها مستقلاً عن الفكر الغربي، وعلينا أن "ننظر أبعد من الأيديولوجيات الاقتصادية التي تثري جزءاً واحداً من العالم على حساب الجزء الآخر".
لقرون طويلة، أنشأ المزارعون في مصر قنوات للري لجر مياه النيل الخصبة إلى حقولهم. ويقول ويليام ماكدونو ومايكل برونجارت في كتابهما "من المهد إلى اللحد" Cradle to Cradle إن "المصريين زادوا تدفق هذه المياه المغذية لقرون طويلة من دون إرهاقهم بالضرائب". ولكن حين دخل مهندسون بريطانيون وفرنسيون البلاد وغيروا النظام الزراعي إلى الأساليب الغربية، أصبح الطمي الذي كان يغذي الأرض لقرون يتراكم وراء الإسمنت. وها هي مصر اليوم تنتج "أقل من 50% من غذائها وتعتمد على الواردات من أوروبا والولايات المتحدة".
لهذا السبب نحتاج إلى مفكرين أحرار بإمكانهم وضع حلول إبداعية لها صلة بالظروف المحلية. كلّ هذا جيد ولكن من أين نبدأ الآن؟
قدم ناير اقتراحاً مثيراً للاهتمام وهو أن "على الجامعات والمدارس أن تعلّم الطلاب أمورًا تعدّهم للمساهمة بأفكار ذات صلة بالبلد الذي يعيشون فيه، بدلاً من الترويج لأساليب غربية لا يمكن الوصول إليها. وسيكون معظم هذا العمل في مجال الاقتصاد والسياسة العامة. غير أنه يجب السعي وراء الأفكار الجديدة في المجالات الأساسية أيضاً مثل العلوم والعلوم الاجتماعية"، وبالتأكيد وفي مجال الإنسانيات ودراسات القيم والتاريخ والثقافة.
صحيح أن قادة الأعمال والرياديين سيؤدون دوراً مهماً في تحويل نموذج العمل العائد إلى فترة الثورة الصناعية، إلاّ أنهم بالتأكيد لن يقوموا بذلك بمفردهم. فعلى الجامعات أن تشجّع الأساتذة لديها على التركيز على المشاكل المحلية الحقيقية وخلق مساحات حيث بإمكان الطلاب أن يجتمعوا ويطرحوا أفكارهم ويجربوا اختباراتهم. كما يجب أن تنوجد مجموعات أبحاث في كل مدينة وقرية ويجب تمكين الناس كي يبنوا حلولهم الخاصة للمشاكل عبر استخدام الموارد المحلية. فلا يمكننا أن نواصل تكرار نموذج وتجاهل قيمنا وتاريخنا وثقافتنا.
فلنعِد إذًا تعريف مفهوم العمل بالكامل.