حدّد أهدافاً كبيرة ولا تخف من التوسّع
سبق ونُشِر هذا الموضوع على "لينكد إن" Linkedin.
منذ أن كنتُ في "شبكة دعم الأعمال العربية" ABAN (2008) حتّى الآن، قطع المشهد العام لريادة الأعمال في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا شوطاً طويلاً. ففي عام 2008، لم يكن يوجد إلّا عدداً قليلاً من الشركات التقنية المهمّة التي يقف وراءها روّاد أعمالٍ مطّلعون ومتمكّنون خاطروا في إطلاق شركاتٍ ناشئة. واليوم، أرى المئات من الشركات الناشئة التي يتمّ إطلاقها عبر المواقع الإلكترونية وتطبيقات الهواتف المحمولة كلّ عام وهذا ما سيشهد نموّاً في المستقبل، خصوصاً مع تناقص الخوف من الفشل الذي أوقف الكثير من الروّاد سابقاً. ولكن مع هذه التغييرات، ظهرَت بعض التحدّيات الأخرى التي سأعالج واحداً منها في هذه المقالة... الخوف من التوسّع (أو بطريقةٍ أخرى، الطموحات المحدودة لدى روّاد الأعمال).
نستقبل كلّ عامٍ في "بيكو كابيتال" BECO Capital المئات من فرص الاستثمار في شركاتٍ ناشئةٍ تقنية من جميع انحاء المنطقة، كما أنّنا نقابل الكثير من روّاد الأعمال. وكجزءٍ من عملية الاستثمار والإعداد لدينا، نحاول تحديد روّاد الأعمال الذين يمكنهم النموّ إلى حجمٍ كبير، وهو ما نعرّفه على أنّه 20 مليون دولارٍ أميركيٍّ من المبيعات سنوياً أو 100 مليون دولار كقيمةٍ للمؤسَّسة خلال فترةٍ قصيرةٍ تقريباً (من 5 إلى 7 سنوات)، وذلك بهدف تحقيق عوائد كبيرة على راس المال.
يرتكز هذا الرقم إلى عائدات أكبر شركات التقنية في المنطقة ("بيت.كوم" Bayt.com، "ياهو/مكتوب" Yahoo/Maktoob، و"زاوية" Zawya) التي تحقّق أكثر من 20 مليون دولار كمبيعاتٍ سنوية، وهذا ما يعني أنّ الشركات التقنية يجب أن تنمو إلى هذا الحجم في الوقت الحاليّ، وحتّى بمعدّلٍ أعلى (لقد استغرقت هذه الشركات من 8 إلى 10 سنوات كي تصل إلى هذا المستوى من المبيعات، وهو ما حدّدنا على أساسه الفترة التي نفترضها لنموّ الشركات التي نستثمر فيها، أي من 5 إلى 7 سنوات).
وبعد مواصلة العمل وتحليل الفرص الاستثمارية، كنتُ شاهداً على مشكلةٍ متناميةٍ تواجه روّاد الأعمال، وقد أصبحَت مصدر قلقٍ حقيقيٍّ لهم، إنّها الخوف من التوسّع.
يمتلك معظم الروّاد الذين قابلناهم أعمالاً مهمّةً، ولكنّهم يفتقدون إلى الطموح. فهم يقتنعون بإمكانية نموّ شركتهم إلى 3 ملايين دولار كمبيعاتٍ سنويةٍ مع مليون دولارٍ كأرباح، ما يبدو أنّه أمرٌ جيّدٌ لرائد الأعمال، ولكنّه من ناحيةٍ أخرى يكون بمثابة مشكلةٍ بالنسبة للمستثمِر خصوصاً إذا كان صاحب رأس مال مُخاطِر. وإذا ما أخذنا التقييم في عين الاعتبار، فإنّ هذه المشكلة تتعاظم (وهو ما سأتناوله في المقالات القادمة).
أمّا الشركات التي تأتينا مع هذه التوقّعات ومع الحدّ الأدنى من الإيرادات (وبالتالي الكثير من المخاطر)، فتتراوح قيمتها قبل الاستثمار بين مليونٍ و3 ملايين دولار (وأكثر أحياناً) ويتطلّعون لجمع ما يقارب مليون دولار. من جهةٍ أخرى، إذا استثمر أحد المستثمرين مليون دولار في عملٍ ما ونما هذا العمل إلى 3 ملايين دولار من حيث المبيعات السنوية في فترة 5 سنوات (من دون الحصول على تمويلٍ إضافي)، قد تصل قيمة الشركة إذاً إلى 12 مليون دولار (كحدٍّ أقصى) والمستثمر سيحصل على أربعة أضعاف ما لديهم من مال. يمكن أن يبدو هذا الأمر استثماراً تأسيسياً جيّداً، أو حتّى عملاً يحافظ على مستوى معينّ من الدخل "لايفستايل بيزنس" Lifestyle business، ولكنّه لا يناسب أصحاب رأس المال المخاطر. فهؤلاء يخاطرون بمبلغٍ كبيرٍ من رأس المال بهدف تحقيق عائداتٍ كبيرةٍ (من 7 إلى 10 أضعاف المال المستثمَر، خصوصاً إذا كان في استثماراتٍ/أعمالٍ فاشلة)، ومن ثمّ يتطلّعون إلى الاستثمار في شركةٍ سريعة النموّ وكبيرة الحجم.
إذا تناولنا الطموح من ناحية جنسيات روّاد الأعمال، سنجد أنّ الروّاد المصريين والأردنيين هم الأقلّ طموحاً عندما يتعلّق الأمر بتوسيع نطاق شركاتهم، ويعتقدون أنّ 3 ملايين دولار كعائداتٍ سنويةٍ على المبيعات ومليون دولار كأرباحٍ بمثابة فرصة عظيمة. أمّا الروّاد اللبنانيون، فهم على العكس تماماً، يبالغون في طموحاتهم ويعتقدون في كثيرٍ من الأحيان أنّ بإمكانهم إنشاء شركاتٍ يمكن أن تحقّق 100 مليون دولارٍ كمبيعاتٍ سنوية. وبالنسبة للروّاد من دول مجلس التعاون الخليجيّ، فطموحاتهم معتدلةٌ تقريباً، وهم يهدفون إلى شركاتٍ مع 15 إلى 30 مليون دولارٍ من المبيعات السنوية.
يمكن أن يكون هناك عدّة عوامل تدفع نحو هذا التوجّه، ولكنّني أعتقد أنّ هذا مزيجٌ بين حجم السوق والفطنة التجارية. فصغر سوق الأردن يجبر الروّاد الأردنيين على التفكير بالأهداف البسيطة وحسب منذ البداية، ما دفع معظم هؤلاء الروّاد للحدّ من طموحاتهم ووضع أهدافٍ محدودةٍ لأنفسهم.
ولبنان من جهته يُعتبَر سوقاً صغيرةً، لكنّ الروّاد فيها يمتلكون عقليةً تجاريةً قوية، فهم كباعةٍ يفكّرون بالأمور الكبيرة ويضعون أهدافاً كبيرةً لأنفسهم ويطمحون للعالمية منذ البداية. وربّما يعود ذلك إلى الحرب الأهلية التي مزّقَت البلاد قبل 30 عاماً، ما دفع المواطنين للتفكير بالخارج وبالتالي للعمل على حلّ مشاكل إقليمية/عالمية ومحاولة إنشاء شركاتٍ كبرى.
من جهةٍ أخرى، إنّ مصر سوقٌ كبيرةٌ تمتلئ بالمهندسين الرائعين ولكن مع وعيٍ تجاريٍّ أقلّ، بحيث عادةً ما يعانون من فهم كيفية جني المال من منتَجهم/خدمتهم أو من التوسّع نحو مناطق جديدة، أو أنّهم يعتمدون نماذج عملٍ ليست قابلة للتوسّع أو الوصول إلى حجمٍ كبير. وأخيراً، بالنسبة للروّاد الخليجيين، فهم يعرفون الكثير عن سوقهم وعن حجمها المحتمَل بما أنّهم يقطنون في منطقةٍ ذات كثافةٍ سكّانية ومستهلِكين حقيقيين ينفقون المال، وبالتالي يكونون أفضل تجهيزاً لقياس حجم العمل.
لمعالجة هذا الخوف من التوسّع، ينبغي على روّاد الأعمال أن يفتحوا أعينهم على إمكانات المنطقة بدلاً من إمكانات أسواقهم المحلّية. يجب عليهم أن يفكّروا بنماذج عملٍ فريدةٍ وقابلةٍ للتوسّع تسمح لهم بالوصول إلى حجمٍ كبير، وأن يفهموا سوقَهم المستهدَفة وعملاءهم أكثر ويقوموا بأفضل ما يمكنهم.
واليوم، يشكّل الشرق الأوسط سوقاً حقيقيةً من مستهلِكين وشركات يستخدمون التكنولوجيا في التعاملات واستهلاك المحتوى (حوالي 100 مليون مستخدِمٍ للإنترنت و40% من السكان يمتلكون هواتف ذكية). لقد شهدَت المنطقة تدفّقاً كبيراً لرؤوس الأموال المخاطرة والاستثمارات التأسيسية خلال السنوات الأربع الفائتة، أكثر بكثيرٍ ممّا كان موجوداً في السابق قبل 10 سنوات، وهذا ما يشكّل فرصةً كبيرةً لروّاد الأعمال اليوم. يمكنهم اليوم بناء شركةٍ أسرع بكثيرٍ من ذي قبل، والحصول على رأس مالٍ كافٍ للتوسّع والوصول إلى جمهورٍ كبيرٍ بما فيه الكفاية لبناء شركةٍ كبيرة الحجم.
ولكن من أجل النجاح، لا يوجد أمام روّاد الأعمال الكثير من الخيارات، إذ ينبغي عليهم متابعة أعمالٍ يمكنها أن توفّر الفرصة الأكبر. وإذا رأوا أنّ عملاً ما لا يمكن أن يحقّق إلّا قيمةً محدودةً للمشروع، يجب صرف النظر عنه والبحث عن شيءٍ آخر. فالوقت والجهد المبذولان في إنشاء عملٍ وتنميته هما بمثابة تكلفة الفرصة البديلة opportunity cost، ويجب التفكير بأدقّ التفاصيل فيها. وإذا اختاروا اتّباع الفرصة الصغيرة كما أوردنا أعلاه، سينعكس حجم أعمالهم على قيمتها، وبالتالي يجب أن يتوجّهوا نحو المستثمرين التأسيسيين بدلاً من أصحاب رأس المال المخاطر.
بعد لقاء الكثير من روّاد الأعمال في المنطقة، أشعر شخصياً بالتفاؤل حيال تخطّي هذه العقلية على المدى القصير، كما أرى المزيد من الروّاد الذين يفكّرون بالأهداف الكبيرة، وبالتالي سنشهد بروز المزيد من قصص النجاح والشركات ذات الحجم الكبير من المنطقة.