باكستان تعود لتكون 'كاليفورنيا آسيا' من جديد [رأي]
هل عادت الشمس إلى سماء باكستان؟ (الصورة من "ذا ديبلومات" TheDiplomat.com)
لا يخفى على أحد أنّ عالم الشركات الناشئة في باكستان بدأ بالازدهار، ومع نشأة طبقة وسطى جديدة ونجاح الإجراءات الأمنية المشدّدة والسياسات الخارجيّة، فقد نشهد نهضة تقنيّة لهذا البلد على الصعيد العالمي أيضاً.
منذ استقلالها قبل 68 عاماً، أقامت باكستان في أغلب هذه المدّة وعوداً مغرية لكن صعبة المنال.
ومنذ نصف قرن، أطلق عليها بروفسور، جاء إلى باكستان من جامعة "هارفرد" Harvard في زيارة عمل، اسم "كاليفورنيا آسيا" California of Asia. يعود ذلك إلى الاندفاع الريادي الذي يتمتّع به سكّانها، وسياسات السوق الحرّة، وشركات الطيران والاتصالات المتقدّمة إقليمياً والتي أسّست لشركات عالمياً أساسيّة اليوم، مثل "طيران الإمارات" Emirates Airlines و"اتصالات" Etisalat.
في الستينات، كان نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي أكبر ممّا هو عليه في أيّ من دول ‘النمور الآسيوية‘، كما كانت إمكانيّات وتطلّعات هذه المنطقة أفضل من إمكانيات هؤلاء. لكنّ تلاقيهم مع الاشتراكيّة، وسوء الإدارة والحروب جعلَت الطريق إلى التقدّم وعرةً ومحفوفةً بالَمخاطر.
أمّا اليوم، فإنّ مسرّعات النموّ في باكستان تُخرّج شركاتٍ ناشئ لا تلبث أن تحصل على بعض الزخم حتى تبدأ بالتوّسع. وفي عام 2015، ازدادت نسبة التمويل التأسيسي 600% على أساسٍ سنويّ، ولعلّها تخطّت مجموع نسب العقد الماضي كلّه.
في هذا الإطار، قامت "ناسبرز" Naspers و"روكيت إنترنت" Rocket Internet باستثمارات كبيرة في شركات ناشئة في مراحل متقدّمة، منها استثمار بقيمة 56 مليون دولار في "داراز" Daraz، وهي شركة تجارة إلكترونية ناشئة تشبه "أمازون" Amazon وتطمح للتوسّع إقليميّاً. (الشريكان المؤسِسان لـ "داراز"، منيب ماير وفارس شاه إلى اليمين. الصورة من "ستارت أب جريند" Startup Grind)
وفي السياق عينه، تبقى علاقات الباكستانيين بوادي السيليكون قويّة، إذ إنّ شركات تتخطّى قيمتها المليار دولار unicorns، مثل "فاير آي" FireEye و"أدفانسد مايكرو دفايسز" AMD، "أي أس تي ريسرتش" AST Research، قد أسّسها أشخاصٌ باكستانيون.
تحتلّ باكستان المرتبة الرابعة عالميّاً من حيث عدد العاملين بدوام حرّ عبر الإنترنت، فيما تتوسّع شركات التكنولوجيا فيها إلى الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا. فعلى سبيل المثال، قامَت مؤخراً "نيتسول تكنولوجيز" Netsol Technologies المدرجة في "ناسداك" Nasdaq بتوقيع عقدٍ بلغت قيمته 100 مليون دولار.
لكن هل هذا النموّ مؤقّت أم مستدام؟
شهدت باكستان نموّاً مشابهاً في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في أواسط العقد الماضي، حيث كانت باكستان ثاني أسرع اقتصاد في العالم من حيث النموّ، وراء الصين. وذلك قبل أن تجرفها الاضطرابات المدنيّة وحرب الاستنزاف وتزيحها عن مسارها.
ولكن هذه المرّة قد يكون هناك سببٌ لاستدامة هذا النموّ. ومن المحفّزات الاستراتيجيّة التي تحمل مستقبلاً واعداً ومستداماً لباكستان وشركاتها الناشئة: زيادة الطبقة الوسطى، وتحسّن مستوى الأمن.
عصر الطبقة الوسطى
يصنّف تقرير "بنك التنمية الآسيوي" ADB الطبقة الوسطى في باكستان كإحدى أسرع الطبقات الوسطى نموّاً في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. لقد كبرت هذه الطبقة بين عامي 1990 و2008 بنسبة 36.5% (وهي نسبةٌ أكبر بثلاث مرّات ممّا هي عليه في الهند حيث كبرت بنسبة 12.5% في المدّة عينها).
وتفيد الدراسات الأخيرة (أنظر الجدول أدناه) أنّ الطبقة الوسطى في باكستان، التي تبلع الآن 55%، تضمّ النسبة الأكبر من عدد السكّان. وهذا يعني أمرين: أوّلا، يوجد في باكستان سوق تتألّف من أكثر من 100 مليون عميل للحواسيب والهواتف الذكيّة والبرّادات والتلفزيونات والسيّارات التي ازدادت مبيعاتها بنسبة تتجاوز 30% في العام الماضي فقط؛ وثانياً، نموّ القيم التي تبنّاها الطبقة الوسطى الحديثة النشأة في مختلف البلدان النامية، مثل التعليم وسلطة القانون وحريّة التعبير والإعلام، وزيادة في التفاؤل والمخاطرة، ما يشكّل ركيزة لاقتصاد التكنولوجيا الإبداعيّة innovative tech economy.
الأسر الباكستانيّة تبتاع المنتجات أكثر فأكثر.
مع نسبة تصل إلى 25%، تسجّل باكستان أكبر زيادة في عدد النساء المنتسبات إلى الجامعات عالميّاً، كما تقدّم وسائل الإعلام فيها انتقادات لاذعة فيما يتحسّن موقعها في تصنيف منظّمة "الشفافيّة الدوليّة" Transparency International. كذلك، تزداد مبيعات الهواتف الذكيّة وجودة الاتصال بشبكة الإنترنت، ومن المتوقّع أن تتخطّى إيرادات التجارة الإلكترونية 5 مليارات دولار بحلول عام 2020.
فرض الأمن: إعادة إحياء الاقتصاد في باكستان
تثير الإنجازات المحققة الإعجاب، إذ إنّ هذه البلاد تنهض لتوّها من حربٍ طويلة ضدّ المسلّحين.
لقد أدّى العنف الممتدّ من أفغانستان المجاورة والهجمات الإرهابيّة الشنيعة إلى تأخير الإصلاحات الاجتماعية الاقتصادية، وإلى هروب رؤوس الأموال وإلى انتقادات من وسائل الإعلام العالميّة.
ولكن في الوقت الحالي، ومع انحسار النزاعات، يبدو أنّ التسويات باتت وشيكةً بين البلدان المتصارعة والقوى الإقليميّة التي تؤثّر على الداخل الباكستاني.
ففي المحادثات الرباعيّة، تناقش كلّ من الولايات المتّحدة والصين وباكستان وأفغانستان نهاية الحرب ضدّ طالبان في هذه الأخيرة. ومن جهةٍ أخرى، وقّعت باكستان صفقاتٍ في مجال الطاقة مع قطر، حليفة السعوديّة أحياناً، وإيران.
كذلك، تبني الصين وباكستان ممرّاً اقتصادياً بينهما باسم "الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان" CPEC، سيربط مرافئ باكستان بجنوب الصين وآسيا الوسطى ويبني ‘جسراً يربط بين القارات‘ يعِد بتحويل مرافئ باكستان إلى مراكز تجاريّة على قدر المسافة بين هونغ كونغ ودبي.
وبالتالي فقد أثار نشر خبر استثمار الصين 45 مليار دولار في هذا المشروع اهتمام الجهات الاقتصادية العالميّة بباكستان من جديد، إذ أنّ نسبة المخاطرة فيها تنخفض، وأصولها لا تزال تقدّر بأقلّ مما هي تساوي، كما أنّ مستقبلها واعد.
بدأ العمل ببناء هذا الممرّ الذي من المتوقّع أن يؤدّي إلى تقدّم المناطق غير المتطوّرة مثل منطقة قراقرم شمال باكستان (الصورة من "باكستان ديفنس" Pakistan Defence)
وهذا العام، من المتوقّع أن يغيّر "مؤشّر مورجان ستانلي" MCSI موقع سوق الأوراق الماليّة في باكستان من ’شبة ناشئة‘ (صاعدة) frontier إلى ’ناشئة‘ emerging.
كما أنّه وفي حين تحافظ العلاقة بين هذه البلاد والولايات المتحدّة على متانتها، يكسب التقارب التاريخي بينها وبين روسيا زخماً كبيراً.
وبالتالي، كنتاج لهذه التسويات جميعها، يمكن أن تنشأ باكستان كسويسرا المنطقة التي يثير حيادها واستقرارها اهتمام كلّ القوى، فتؤسِّس لبيئةٍ ضروريّةٍ لتنميةٍ اقتصادية وتكنولوجيّة مستدامة.
ويجدر بالذكر أنّ حتّى العلاقات مع الهند تبدو في طور الإصلاح، وذلك بعد لقاءاتٍ عدّة جرت بين رئيسي حكومتي البلدين. ولكن يبقى حلّ نزاع كشمير ضرورياً لبناء علاقةٍ تعاونيّة مستدامة بين البلدين.
التحولات الجذريّة تشجّع التكنولوجيا
ترافق توقّعات التغيير هذه تحديّاتٌ كثيرة على باكستان تخطّيها.
يعاني جزءٌ كبيرٌ من السكّان من سوء التغذية والجهل ومن ظلم النظام القضائي، ويجب إعادة إدخاله في التوجّه الوطني الجديد. ولتحقيق ذلك، يجب إنشاء برامج اجتماعية تناضل من أجل الموارد النادرة بالإضافة إلى مشاريع البنى التحتيّة في قطاع المواصلات التي تميّزت بها الحكومة الحاليّة، إضافة إلى أولويّات وطنيّة أخرى.
كما يجب المحافظة على الحملة العسكريّة الجارية ضدّ الفساد والعصابات الإجراميّة والميليشيات، في ظلّ الحفاظ على التوازن بين النفوذ العسكري ونفوذ الإدارات السياسيّة المنتخبة في ظلّ نظام ديمقراطي.
التنبؤ بالمستقبل لعبة خطرة جدّاً، ولكن بفضل التحولين الجذريين في باكستان – نمّو الطبقة الوسطى والتسويات الاستراتيجيّة في السياسة الخارجيّة - يسود تفاؤلٌ حول تخطّي التحدّيات التي يواجهها هذا البلد في الزمن القريب.
بيئة الشركات الناشئة في باكستان تتحرّك وتخطط للسيطرة على العالم (الصورة من "دان" Dawn)
من أجل بناء اقتصاد التكنولوجيا، يجب على الحكومة أن تؤدّي دوراً داعماً كبيراً في زيادة الاستثمار المخاطر على شاكلة صندوق التمويل "ماليزيا فينتور كابيتال ماناجمنت بيرهاد" MAVCAP في ماليزيا الذي يقدّم إعفاءات ضريبيّة للشركات الناشئة في المجال التكنولوجي والمستثمرين فيها. فهذا يسهّل عمليّة إنشاء الشركات والتخارج (البيع أو الاستحواذ) ويضمن تحقيق عقود العمل وحقوق الملكيّة الفكريّة.
لقد بدأت باكستان بالعمل في الطريق الصحيح من خلال تعيين مدراء موهوبين في الهيئات التنظيميّة والترويجيّة في التكنولوجيا والتعليم العالي، وفي إنشاء محاكم تعنى بشكلٍ خاص بحقوق الملكيّة الفكريّة.
وكما تقول لجنة التخطيط في حكومة باكستان: "لا يمكن للناتج القومي الإجمالي السنوي لهذا البلد أن يكبر بنسبة 8% ويجعل منها بلداً متوسط الدخل خلال فترة جيل واحد من خلال اقتصاد التكنولوجيا."
وكون باكستان من أكثر البلاد اكتظاظاً بالسكّان، فإذا تمكّنت من تحقيق ذلك، ستؤدّي دوراً هائلاً في الساحة التكنولوجيّة العالميّة.