التكنولوجيا تضع المنطقة العربية عند مفترق طرق
منذ أربعة عشر عامًا، وجّهت مجموعة من المفكرين العرب نداء صحوة جاء فيه أن منطقة الشرق الأوسط تحتاج إلى 140 عامًا لمجرّد التوصل إلى مضاعفة دخل الفرد. ومنذ ذلك الحين وحتى عام 2016، شهدت المنطقة مرحلة من التغيّرات الهائلة: ثورات وحروب قلبت دولًا رأسًا على عقب، في حين وفّر انتشار التكنولوجيا فرصًا عظيمة استفاد منها الشعب.
خلال هذه المرحلة أي منذ نشر "تقرير التنمية الإنسانية العربية" (AHDR) Arab Human Development Report الأول في عام 2002، تغيّرت العوامل المؤثرة على المنطقة تبعًا لمفاعيل السياسات والتكنولوجيا، وأنشأت ظروفًا أدّت إلى ازدهار ريادة الأعمال.
ربيع الشركات الناشئة (من عام 2011 إلى 2015)
شدّد تقرير عام 2002 على ثلاثة نواقص تعيق التنمية الإنسانية في الدول العربية الممتدة من عُمان حتى المغرب وهي: "الحرية، والمعرفة، وتمكين المرأة". كما جاء في التقرير أن نسبة " 0.6% فقط من العرب يستخدمون الإنترنت، ونسبة 1.2% فقط منهم يملكون حاسوبًا شخصيًّا".
وبعد عقد من الزمن، حقّقت الإنترنت انتشارًا واسعًا، وراح العرب "الرقميون" ينشرون الأخبار، ويعبّرون بحرية عن مشاعرهم وآرائهم، ثم حملوها في خطوة لاحقة ونزلوا بها إلى الشوارع مطالبين بحقوقهم. عُرفت هذه المرحلة بالربيع العربي. وفاجأت مفاعيلُها الناشطين أنفسهم، وأخافتهم عواقبُها.
واليوم وبعد مرور خمسة أعوام، يمكن اعتبار هذه المرحلة بداية تغيّرٍ جذري قد لا يبدو جليًّا مثل تجمّع ملايين الأفراد في ساحة التحرير إلا أن فرص نجاحه على المدى البعيد هي حتمًا أكبر.
دور التكنولوجيا كعامل مبدّل
تشكّل قيم مجتمع ما العامل المقرّر في بناء الديمقراطية: والدليل على ذلك هو مصير محاولات التغيير، سواء على شكل تدخلات خارجية أو احتجاجات داخلية من قبل أقليات مثقفة وحضرية، التي غالبًا ما تبوء بالفشل. كما أن نماذج الدول التي ينصّ دستورها على الديمقراطية من غير أن يُطبّق هو دليل آخر على صحّة هذا القول.
أدّت في المقابل، التكنولوجيا بشكل عام والإنترنت بشكل خاص الدور الأبرز في إطلاق وتحرير القيم من حول العالم، بحيث حقّقت ما يسمّيه العالم السياسي الألماني كريستيان ولزل "التمكين الإنساني". وقد تجسّد المفعول الأقوى لدور الإنترنت في منطقة الشرق الأوسط التي تُعدّ اليوم المنطقة الأقل تكريسًا للحريات من حول العالم.
وفي هذا السياق، يُعدّ ظهور بين ألف وثلاثة آلاف شركة ناشئة تكنولوجيّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في العقد الأخير حدثًا تاريخيًّا غير مسبوق. لا سيّما وأن هذه الشركات تدعم معظم أهداف الثورات: فتقدّم حلولًا للمشكلات الملحّة، ويتبنّى مؤسّسوها استراتيجية الحل من الأسفل حتى الأعلى، فيخلقون فرص عمل في الاقتصاد المعرفي ويحفّزون الشفافية والمزيد من الرقمية والتبادل التجاري بين دول المنطقة.
يعتبر الاقتصاد المعرفي الذي في طور النشوء فرصة تاريخية بالنسبة للاقتصادات الريعية المترنّحة. كما أنّ مشروع التحديث والتطوير الصناعي لم ينجح في العالم العربي لأسباب عدّة ومنها اعتماد الاقتصادات العربية بشكل كبير على "المداخيل غير المكتسبة بالعمل" مثل بيع الموارد الطبيعية والاستفادة من التحويلات والمساعدات الخارجية.
يؤدي بروز الشركات التكنولوجية حول العالم إلى انتقال تمركز الاهتمام من مجموعات التصنيع الواسعة النطاق إلى مجموعات الابتكار. كما يؤدي تحسين بنسبة 10% فقط في البيئة الريادية للمنطقة العربية إلى ضخّ 700 مليار دولار أميركي لاقتصادات المنطقة – أي ما يعادل إضافة اقتصاد بنفس حجم اقتصاد المملكة العربية السعودية.
ريادة الأعمال عند مفترق طرق (من عام 2016 إلى عام 2020)
ومع نهاية عام 2016، سوف يبرز عاملان إذا اجتمعا يمكنهما إما إعاقة دور ريادة الأعمال بشدّة، أو تسريعه إلى حدٍّ كبير.
1. الأموال الوافرة. تذمّر روّاد الأعمال والمستثمرون لأعوام طويلة من قلة الموارد المالية التي خُصّصت للاقتصاد الرقمي مقابل ما خُصّص لقطاع العقارات، والبيع التجاري، والخدمات اللوجستية. إنّما هذا الواقع تبدّل في عام 2016 حين بلغ سعر النفط أدنى مستويات له على الإطلاق، وبرزت في المقابل شركتان ناشئتان تخطّت قيمة كل منهما المليار دولار أميركي )يونيكورن(.
على الأثر، أسّست السعودية صندوق تمويل تكنولوجي بقيمة 100 مليار دولار أميركي وهي قيمة تتخطّى الناتج المحلّي الإجمالي لدولة عُمان. وإذا جرى استثمار 1% فقط من هذا الصندوق لدعم شركات ناشئة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فإن هذه القيمة تتخطّى مجموع قيمة الاستثمارات المُفصَح عنها في الفترة الممتدة بين عامي 2011 و2015. في السياق نفسه، أطلق رئيس مجلس إدارة شركة "إعمار" Emaar العقارية منصّة للتجارة الإلكترونية انطلقت مع استثمار أولي وصل إلى مليار دولار أميركي.
في تطوّرٍ إيجابي، سوف تشكّل هذه الصناديق دعمًا أوسع لريادة الأعمال انطلاقًا من اتخاذ القرارات المبنية على البيانات لمعالجة المعوّقات ودفع المنطقة باتجاه تحقيق كامل قدراتها الكامنة.
أما في أسوأ الحالات، سوف يؤدي هذا المبلغ المالي إلى القضاء على معظم الإنجازات التي تمّ تحقيقها في العقد الأخير، وذلك من خلال تأثير الشبكة أي عندما تكون بوابة وظائف أو شبكة اجتماعية أو شركة تجارة إلكترونية واحدة ذات عدد كبير من المستخدمين وهي التي تجتذب المزيد من المستخدمين الجدد والمشترين. يؤدي هذا التأثير إلى مشكلة احتكار الأقلية واكتساح عدّة شركات ناشئة واعدة.
2.الهواتف الذكية. تقدّر "الجمعية الدولية لشبكات الهاتف المحمول" GSMA أنه بحلول عام 2020 سوف تبلغ نسبة شراء الهواتف الذكية في الدول العربية من خارج مجلس التعاون الخليجي النسبة الحالية المسجّلة في منطقة الخليج، علمًا أن هذه الدول تشكّل نسبة 80% من إجمالي عدد السكان في المنطقة العربية ونصف الناتج المحلي الإجمالي.
إن الحصول على هواتف ذكية بأسعار زهيدة، وعلى إنترنت أسرع وبسعر أقل، يسمح للأكثرية من ذوي الدخل المحدود أو الذين يعيشون في المناطق الريفية بالانضمام إلى الاقتصاد الرقمي. فبالنسبة إلى هؤلاء، ليست التكنولوجيا حاجة بحدّ ذاتها إنما وسيلة تخوّلهم الحصول على التعليم، والمعلومات، والخدمات الصحية والطاقة، والانخراط المالي.
إرساء دعائم التنمية المستدامة
يُنذر "تقرير التنمية الإنسانية العربية" الأخير الذي نُشر في نهاية عام 2016 من المزيد من الاضطرابات القادمة. ولدى قراءته الموصى بها، يمكن استنتاج صدمةً وإنذارًا ورؤية.
الصدمة: يشكّل العرب نسبة 5% من سكان العالم. وفي عام 2014 اعتبروا مسؤولين عن 45% من النشاطات الإرهابية حول العالم، كما شكلوا نسبة 58% من مجموع عدد اللاجئين، ونسبة 68% من مجموع ضحايا الحروب.
الإنذار: بحلول عام 2020، يُتوقع أن يعيش ثلاثة من أصل أربعة مواطنين عرب في دولة معرّضة لنزاعات عنيفة. وستبقى ريادة الأعمال بعيدة كل البعد عن تحقيق قدرتها الكامنة في ظل استمرار أوضاع الفقر، والفساد، والإقصاء، والتطرّف، والقمع، وتغيير مسار ميزانيّات التنمية إلى شراء الأسلحة على حالها.
الرؤية: المطلوب أن تضع الدول العربية الشباب وتطوير قدراتهم وفرصهم في صلب استراتيجياتها الوطنية، وأن تنظّم الوزارات حلقات استشارية وتشاورية مع منظمات الشباب وممثلين عنهم. من الضروري أيضًا العمل على تشجيع المجتمع المدني والشراكات بين القطاعين العام والخاص الهادفة إلى تزويد الشباب بالموارد والمهارات التي يحتاجونها. ويمكن لصنّاع القرارات اقتباس نماذج الدول التي بدأت تعتمد الحلول الابتكارية مثل التأمين المتناهي الصغر، وتحويلات الأموال عبر الهاتف المحمول، والتعليم الإلكتروني.
يقترح التقرير خطوات عملية مفصّلة في هذا الشأن. فمجرّد تبنّي دولتان أو أكثر نموذجَ دولة تونس يسمح بتعزيز التنمية وريادة الأعمال في المنطقة من خلال دورة تفاعل إيجابية تغذّي نفسها.
حتى يومنا هذا، ما زال عدد الشركات الناشئة التي تقدّم خدمات عند قاعدة الهرم محدودًا نسبيًّا. فمعظم الشركات المموَّلة والسريعة النمو تعمل في مجال التجارة الإلكترونية وابتكار المضمون والسفر والترفيه. ولقد تطلّب إنشاء هذه الشركات الكثير من الوقت أيضًا، فقد استلزم المموّلون التقليديون عقدًا كاملًا لإدراك أن الاستثمار في التجارة الإلكترونية قابلٌ للنمو والاستمرار.
وبتبنّي هذه الرؤية، يمكن تحسين الأمن القومي وتسريع النمو الاقتصادي من خلال زيادة التعاون بين دول المنطقة. يؤدي ذلك على المدى الطويل إلى تحقيق التبادل المجاني للسلع ورؤوس الأموال والموارد البشرية داخل اتحاد من الدول العربية.
كما أن ريادة الأعمال المرتبطة بحل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية لا يمكنها الانتظار عقدًا آخر. ويجب استثمار قسم من المبالغ الطائلة المخصصة للاستثمار في الشركات الناشئة ضمن دول مجلس التعاون الخليجي، في دول شرق البحر الأبيض المتوسط وشمال إفريقيا، مما يسمح بإعادة بناء الدول المدمّرة والإسهام بشكل إيجابي في التنمية المحلية. فالتوصل إلى الاستقرار وكسب ثقة المستثمرين من جديد تأتي في مصلحة جميع الدول العربية.
بالإضافة إلى ذلك، تحتاج الشركات الناشئة التي تقدّم خدمات للعموم إلى الحصول على دعم إضافي من الوزارات والجامعات والمؤسسات والجاليات. وفي هذه الحالة فقط، تنتصر ريادة الأعمال. من دون هذا الدعم، يبقى كل شيء على حاله وتعود في عام 2017 موجة الاضطرابات إلى منطقة شمال إفريقيا كما سيطرت عليها في أعوام 2001 و2006 و2011.
إننا اليوم إذًا إما في حالة "هدوء ما قبل العاصفة" التي ستقضي على معظم الإنجازات المحققة في الأعوام الماضية، أو في مرحلة وضع البيئة الريادية المتنامية في خطة عمل تسمح بقلب مصير العرب عبر كافة دول المنطقة.
الصورة الرئيسية من "سبايدربيك".