بعد أن بدأتها الجامعة الأمريكية بالقاهرة .. الشركات الجامعية الناشئة تدق أبواب السوق المصري
تعتبر المهمة الرئيسية للجامعات ومراكز البحث العلمي في المنطقة العربية هي التعليم، وإنتاج الأبحاث والدراسات الأكاديمية المتخصصة ولكن حتى وقت قريب؛ وبالتحديد خلال أخر 10 سنوات بدأ ذلك المفهوم يتغير رويدًا رويدًا، وبالفعل بدأت بعض الجامعات بالخروج من حيز التعليم والدراسة والتطبيق النظري فقط إلى مرحلة أكبر وأشمل تتضمن إنشاء شركات ومشاريع ناشئة متفرعة من كيانها الأساسي Spin-off، تكون مهمتها الأساسية نقل التجارب النظرية من داخل الجامعات والمراكز البحثية لتخرج كمنتجات قابلة للتطبيق العملي ودخول السوق الاستهلاكي كسلع ملموسة ليمكن إجراء عمليات البيع والشراء عليها، أي تعتبر بمثابة جسر يربط بين تلك المؤسسات البحثية والتعليمية من طرف؛ وعالم الصناعة والأعمال من جانب أخر، ويمكن ان يأخذ ذلك الأمر عدة أشكال - بجانب تدشين الشركات الجامعية الناشئة - مثل مشاركة تلك المراكز البحثية للقطاع الخاص في مشاريع صناعية وإنتاجية؛ أو تقاسم استخدام المرافق؛ وتقديم خدمات البحوث الصناعية؛ بالتوازي مع تطوير برامج لتدريب العمال والموظفين عل التقنيات الحديثة، كما يمكن أن يشتمل ذلك التعاون أيضا على الاستغلال التجاري للملكية الفكرية عن طريق نقل المؤسسة البحثية التي تولد الملكية الفكرية إلى الصناعة؛ وغيرها من مختلف الأدوات والطرق التي تجعل البحث العلمي والجامعات جزءًا لا يتجزأ من عالم الصناعة والاستثمار، لتتحول لعنصر مؤثر في تطوير ذلك القطاع وإضافة منتجات جديدة للسوق المحلي؛ وربما الدولي على حد سواء.
زادت مؤخرًا الأصوات المختلفة من المراكز البحثية والمنظمات العلمية الدولية التي تحث الدول منخفضة الدخل "النامية" على وضع سياسات وبرامج استرتيجية مبتكرة تهدف إلى دمج العمل البحثي والجامعات بالمراكز الصناعية والقطاع الخاص وتطوير الشراكة بينهما؛ مع السماح للجامعات بإنشاء الشركات الناشئة والعمل على تطوير نظم الملكية الفكرية وربط العمل البحثي والمعملي بالواقع الاقتصادي ليكون جزء من الطاقة الإنتاجية للاقتصاد القومي للدولة، وهو ما سيساهم في توفير فرص العمل والحد من البطالة التي حذر منها تقرير أبحاث ريادة الأعمال في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: الاتجاهات والتحديات وقضايا الاستدامة، الصادر عن " Journal of Entrepreneurship in Emerging Economies"، لعام 2020، والذي نوه إنها ستبلغ 100 مليون شاب عاطل بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وحدها خلال العشر سنوات القادمة، كما أشار التقرير إلى ان ذلك الدمج سيُمكن الجامعات من تخريج مشاريع ناجحة للسوق يديرها رواد اعمل مؤهلون بشكل علمي، وتعمل على تمكين الطلاب الأكفاء من تحويل أفكارهم المبتكرة ومشاريعهم إلى شركات ناشئة، كما وجد أن المؤسسات التعليمية لها دور هام في نظرة طلابها لريادة الأعمال وكيفية إدارة مشاريعهم الناشئة؛ وهو ما قد يعمل على نجاح وتنمية أو فشل مشاريعهم في المستقبل، بالإضافة إلى ذلك يجب أن تعمل جامعات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كحاضنات لريادة الأعمال للتأثير بشكل إيجابي على تنمية مجتمعاتها، ليشجع التعليم الريادي عقلية الاستثمار بين الطلاب، إلا أن التقرير حذر من أن النظام الأكاديمي الحالي في المنطقة قد لا يساعد في تطوير ريادة الأعمال؛ فالجامعات يتم التركيز فيها على التعليم النظري بدلاً من التعليم العملي أو التجريبي، لذلك يجب على المؤسسات التعليمية أن تعمل على تطوير مناهج تشمل التدريب على تنظيم المشاريع، مع تعريف الطلاب بالمبادئ التوجيهية لنظم الترخيص والتكاليف التشغيلية، التمويل، وإدارة المشايع الناشئة، ومن الممكن ان يأتي ذلك من خلال حث مؤسسات التعليم العالي مثل الجامعات على تضمين مواد ريادة الأعمال في مناهجهم التعليمية ودمجها بدورات تدريبية متخصصة.
مصر بين تحديات وفرص
وفي ذات السياق أشار تقرير هيئة الأمم المتحدة للعلوم والتكنولوجيا من أجل التنمية (CSTD)خلال دورتها الثالثة والعشرون بجنيف، والتي انعقدت في يونيو 2020، إلى أنه قد اعتمدت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي المصرية قانونًا جديدًا بشأن تقديم حوافز للعلم والتكنولوجيا والابتكار لمؤسسات التعليم العالي وهيئات البحث العلمي. يضع هذا القانون المبادئ التوجيهية لتعزيز البحث والابتكار وإنشاء روابط مباشرة مع الصناعة والسماح لجامعات التعليم العالي ومعاهد البحث بإنشاء شركات منبثقة للمساهمة في عمليات الإنتاج والتصنيع؛ وتوفير الدعم للشركات الصغيرة والمتوسطة لتركز على تقنيات الذكاء الاصطناعى والتكنولوجيا الحديثة التي من المتوقع أن تساهم بنسبة 7.7٪ في الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030، كما أن مصر قامت بزيادة صندوق البحث والتطوير ليقارب 1٪ من الناتج المحلي الإجمالي لتعزيز البحث والابتكار في التقنيات الناشئة وتحويلها لمشاريع اقتصادية تجارية مثل أنشطة تحليل البيانات الضخمة والتكنولوجيا الحيوية، تكنولوجيا النانو، الروبوتات، وإنترنت الأشياء، وهو ما يمكن أن نراه واقعيًا من خلال تخصيص مصر صندوقًا للبحث والتطوير والابتكار وقت تفشي جائحة كورونا، ليرصد 80 مليون جنيه مصري لإجراء بحوث لاختبار وتطوير لقاح مقاوم للفيروس، مما شجع ذلك العديد من الهيئات البحثية على ابتكار وتطوير منتجات طبية جديدة، وهو ما يبشر ببداية طريق مساهمة الابحاث الأكاديمية في التصنيع والعمل الصناعي، إلا أننا لا نستطيع أنكار أن ذلك الامر لا يتعدى مراحله الاولية، وفي جهود السير على ذلك الطريق ايضا تم افتتاح 55 مكتبًا لدعم الابتكار ونقل التكنولوجيا وتسويقها في الجامعات ومراكز البحوث والمعاهد بتمويل يقدر بحوالي 94 مليون جنيه على مدى خمس سنوات؛ بهدف تفعيل دور البحث العلمي وربطه بالصناعة، كما لا ننسى معرض القاهرة الدولي للابتكار الذي يعد سوق سنوي للجديد في المشاريع البحثية؛ حيث يعرض رواد الأعمال والمخترعون ومراكز نقل التكنولوجيا في الجامعات والمعاهد ومراكز البحث وطلاب الجامعات ابتكاراتهم لرجال الأعمال والصناعة والاستثمار.
وكان تقرير المنظومة الوطنية لتطوير ونقل التكنولوجيا في مصر، الصادر عن منظمة الاسكوا، لعام 2017، قدم لمصر عدة توصيات لدمج البحث العلمي في النشاط الصناعي وتمكين الجامعات والمؤسسات البحثية من إنشاء شركات ناشئة، حيث أوصى الدولة بمنح ميزة تفاضلية للشركات العامة والخاصة التي تستثمر في أنشطة البحوث والتطوير داخل الشركة أو في أي جهة بحثية وطنيه حكومية أوخاصة مثل نظم للتحفيز الضريبي للشركات، وايضا استثناء الجهات البحثية من بعض القوانين واللوائح المنظمة للاستيراد والنقد الأجنبي، كما طالب أن تتكفل الدولة بإعفاء الجهات البحثية من كافة أنواع الجمارك، مع منح حوافز إضافية للمستثمرين المصريين والأجانب في الصناعات التكنولوجية القائم على منتجات وخدمات مطورة محلياً، كما شدد التقرير على ضرورة أن تلزم الدولة المؤسسات البحثية التابعة للحكومة لتبني سياسات نقل التكنولوجيا كوسيلة أساسية للاستفادة من مخرجات البحث والتطوير من أجل تحقيق المنفعة العامة، بالتوازي مع تشجيع أعضاء الفريق البحثي من أن يصبحوا مساهمين في تلك الشركة الناشئة، فضلًا عن قيام الجامعات بإنشاء كيان خاص لإدارة نصيبها في الشركات، ونوه التقرير إلى أن إنشاء الشركات المنبثقة من مؤسسات التعليم العالي والمراكز البحثية، قد تكون وسيلة مربحة للغاية لتسويق البحوث للقطاع الخاص، كما تمثل في نفس الوقت أداة فعالة لخلق وظائف جديدة وجذب الاستثمارات المختلفة. وأكد التقرير أنه مع ذلك هنالك العديد من العوامل التي تساهم في إتخاذ القرار لخلق شراكات جديدة غير ترخيص التكنولوجيا؛ مثل انشاء مكاتب نقل التقنيات المتطورة، ووضع نموذج اقتصادى فعال ليحقق استثمارات وشراكات تجارية متنوعة.
وفي ذات الوقت حذر التقرير من أن التحديات التي يمكن أن تواجه مصر في سبيل ذلك؛ هي قلة الدعم المؤسسي؛ وعدم الاستقرار في التعيينات في كل مكاتب الابتكار التكنولوجي والتسويق؛ وعدم توافر الكفاءات والخبرات المطلوبة؛ وقلة الموارد المالية؛ وضعف المشاركة الفعلية لأعضاء هيئة التدريس وايضا الطاب؛ وعدم وجود روابط بين البحث العلمي والعمل الأكاديمي والصناعة والاستثمار.
الجامعة الأمريكية بالقاهرة نموذجًا
وحتى نرى الأمر بصورة عملية على أرض الواقع، قامت الجامعة الأمريكية بالقاهرة منذ ثمان سنوات بإنشاء أول شركة جامعية ناشئة بالتحديد في عام 2013، لتعتبر D-Kimia أول شركة صناعية تكنولوجية مصرية للتحاليل المتطورة، تلى ذلك بعدها بحوالي 8 سنوات 2021 إنشاء شركة ثانية Suitera المتخصصة في أشباه الموصلات؛ وتهدف إلى توفير الأدوات والحلول للمساعدة في التعامل مع التعقيدات المصاحبة لتصميم الجيل التالي من الدوائر المتكاملة، لتعملان معًا كبادرة أولى على دمج العمل في الأبحاث العلمية والجامعية بالسوق الصناعي والإنتاجي. لنشهد في أعقاب ذلك إعلان جامعة الاسكندرية – الحكومية - في شهر أغسطس من عام 2020، عن البدء في إجراءات إنشاء "شركة ناشئة لجامعة الإسكندرية"، لتكون ذات مهام محددة لتسويق وإدارة مخرجات البحث العلمي، وتسجيل براءات الاختراع، لتكون بذلك أول شركة على مستوى الجامعات المصرية الحكومية التي تفتح ذلك الباب؛ خاصة بعد صدور قانون حوافز الابتكار في 2018/2019؛ الذي مكن جميع الجامعات الأخرى من السماح لأعضاء هيئة التدريس بامتلاك أسهم في الشركات بناء على مساهمتهم البحثية والعلمية في المنتجات التي يتم إنتاجها بها.
تحاول AUC القيام بترجمة عملية للربط بين البحوث الأكاديمية والعملية الصناعية والاستثمارية؛ وهو ما يهدف لنشر فكرة أن تلعب الجامعات دورًا أكبر في دعم التنمية الاقتصادية للمجتمعات التي تتواجد فيها، وهو ما أكده "أحمد الليثي"، مدير مكتب نقل التكنولوجيا في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، الذي أوضح - في تصريحات خاصة لـ "ومضة"- أن إستجابة لذلك تم إنشاء مكتب نقل التكنولوجيا الذي يتمثل دوره في المساعدة في ترجمة الأبحاث في الجامعة الأمريكية بالقاهرة إلى منتجات حقيقية، إما من خلال ترخيص لشركة قائمة، أو من خلال مساعدة نموذج بدء تشغيل المشاريع التكنولوجية وترخيصها لتصبح شركة ناشئة بمجرد إنشائها بشكل قانوني، حيث وضعت سياسة ملكية فكرية تزيل كل الغموض حول العلاقة بين الباحث والجامعة، ليتم الاستفادة من ميزانية براءات الاختراع لحماية الملكية الفكرية، ومنح الشركاء التجاريين المستقبليين الذين سيتولون مهمة أخذ هذه الابتكارات للتسويق المزيد من الأمن والحافز للمخاطرة بطرح تقنيات جديدة في السوق.
وهنا تظهر بعض التساؤلات حول تحديد الهدف من دمج العمل البحثي بالصناعي والاستثماري؛ فهل مغزاه تجاري ربحي أم اجتماعي ذو منفعة عامة أكثر من جانبه الاقتصادي، وعن ذلك يشير "الليثي" إلى أن الجامعة هدفها أن تكون منصة أكثر ودية للباحثين الرياديين ليدشنوا صناعات جديدة، وأن يكونوا محركين للنمو الاقتصادي؛ ليساهم في خلق فرص العمل مع الحفاظ على قيم الجامعة المختلفة، وهو ما يستلزم في ذات الوقت ضرورة توسيع استخدام "التكنولوجيا العميقة" لتلك الأنواع من الشركات الناشئة التي تستند إلى بحث أكاديمي جاد، وتتطلب الكثير من الاستثمارات في تطوير المنتجات، وتجاوز التحديات التنظيمية؛ لأنها عادة ما تنشئ أسواقًا أو صناعات جديدة.
تشهد مصر وعدد من الدول العربية بالفعل خلال العقد الأخير محاولات لإنشاء الشركات الجامعية الناشئة ووضع أسس وأطر جديدة لتلك العملية التى تعتبر حديثة نوعًا ما على المجتمع البحثي العربي وايضا الاستثماري، ولكن نظرًا للتحديات الاقتصادية المتزايدة والتطورات العلمية والتقنية المتسارعة؛ فأصبح تكوين تلك الشركات مع الربط بين العمل البحثي والصناعي والتجاري بالتوازي أمر لا مفر منه خلال المستقبل القريب، ليحذر تقرير "الاسكوا" - السابق ذكره – من أن استمرار الوضع الحالي من تجاهل ذلك الدمج أو على الأقل السير فيه ببطء؛ سيجعل الاستفادة من إمكانيات البحث العلمي بمصر والدول العربية محدودة، وستكون معظم الأموال التي تنفق على البحوث غير مستغلة بشكل أمثل، مما سيزيد من إضعاف العلاقة بين الصناعة والأوساط الأكاديمية، حيث أن البحوث التي تجري أحيانا بناء على طلب واضح من السوق، لا توضع موضع التنفيذ الجدي الفعال، وهو ما يؤثر على الصناعة الوطنية وقابليتها للمنافسة الدولية، فضلًا عن تأثيره السلبي على مهام مكاتب التكنولوجيا والابتكار والتسويق، وفي نفس الوقت يؤكد التقرير ايضا أن إنشاء الشركات الجامعية وربط العلم البحثي بالاقتصاد سيساهم في إيجاد حلول فعالة مبتكرة للعديد من التحديات الاجتماعية والاقتصادية، كما سوف يساعد على توفير المزيد من فرص العمل، وتحقيق إيردات تساهم في توسيع استخدام التقنيات المتطورة، مما سيكون له بالغ الأثر في رفع رفاهية المواطنين، وتحقيق نمو اقتصادي أكثر كفاءة واستدامة.