مستقبل الاستثمار بالتكنولوجيا التعليمية في مصر
لم تعد التكنولوجيا التعليمية مصدر للمعرفة فقط بل تعدى الأمر ذلك لتصبح مجال اقتصادي حيوي ومؤثر وغني بالاستثمارات الضخمة، ازدادت أهميته عقب جائحة كورونا، والتي صاحبها إغلاق عام للعديد من المؤسسات التعليمية والبحثية؛ لتحل تلك التقنيات محلها، ويصبح الاستثمار بتلك المشاريع يُدر أرباح وعوائد غير متوقعة، بالتوازي مع انتشار استعمال الإنترنت بمعظم مناطق العالم، وظهر الأمر بشكل أوضح في مصر التي تضم أكثر من 100 مليون مواطن، حوالي 25% منهم من الشباب، وبلغ عدد مستخدمي الإنترنت بها ما يقرب من 72% من عدد السكان، حيث لم تقتصر التقنيات التعليمية على الجانب التثقيفي فقط بل أصبح البحث العلمي جزء مُكمل لها، وهو ما رأيناه خلال السنوات القليلة الماضية بالبلاد من خلال إنشاء عدد من الشركات الناشئة التي استثمرت في ذلك المجال واستطاعت أن تحقق نجاح ملحوظ .
أهمية كبرى
أكد البنك الدولي أنه قد نفذت العديد من البلدان شكلاً من أشكال التعلم عن بُعد، على خلفية جائحة كورونا، وهو ما زاد من اهمية تلك التقنيات، وأظهر مدى الحاجة للاستفادة من نظام بيئي ديناميكي للتعاون، حيث تحتاج وزارات التعليم إلى العمل بتنسيق وثيق مع الكيانات الأخرى العاملة في مجال التعليم سواء العام أو الخاص أو الاكاديمي، لذلك لن نتعجب عندما نعرف أنه من المتوقع أن ينمو سوق تكنولوجيا التعليم والفصول الدراسية الذكية في الشرق الأوسط وأفريقيا إلى 7.1 مليار دولار بحلول عام 2027 - بحسب دراسة نُقلت عن شركة Report Linker لأبحاث السوق العالمية - والتي أوضحت أن الاعتماد الواسع النطاق على الهواتف الذكية والشاشات التفاعلية وأدوات التعلم الرقمية الأخرى في الفصول الدراسية هي محركات أساسية لهذا النمو، وهو ما جعل الاستثمار في شركات تكنولوجيا التعليم على مستوى العالم قفز إلى مستوى قياسي بلغ 36.3 مليار دولار العام الماضي، من 18.6 مليار دولار في عام 2019.
في مصر أطلقت الحكومة عام 2007 صندوق تطوير العلوم والتكنولوجيا وهو ما أعتبره البعض أولى الخطوات لبداية الاهتمام بالتعليم التقني والبحث العلمي المرتبط به بصورة منظمة، ليصعد ترتيبها في أداء الابتكار 13 مرتبة منذ عام 2017 ، لتحتل المرتبة 92 على مستوى العالم خلال عام 2019، ويمكن أن نستوضح ذلك من خلال زيادة الإنفاق على البحث والتطوير إلى 1% من الناتج المحلي الإجمالي. منذ عام 2010، انتقلت مصر من إنفاق 0.43 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 0.71 في المائة في عام 2016.
انتشر الاستثمار في الابتكارات التقنية المتطورة التي تعتبر جزء مكمل للتكنولوجيا التعليمية بمصر خلال السنوات القليلة الماضية ولكنه ازداد وضوح في أعقاب جائحة كورونا، مثلاً هناك مشروع براكسيلابس الذي تأسس عام 2016 وهو معمل افتراضي يوفر 130 تجربة معملية عبر منصة إلكترونية، ومؤخراً استطاعت مؤسسته الدكتورة "خديجة البدويهي" التأهل لأفضل 10 مشروعات ناشئة بمسابقة كأس إفريقيا لأبطال ريادة الأعمال، من جهتها تقول "خديجة" عن معملها الافتراضي:"حصلت على الدكتوراة من جامعة شيفيلد عن التفاعل الإنساني مع الحاسب الآلي، وعندما عدت إلى مصر رأيت معاناة الزملاء مع المعامل وقررت البدء في مشروعي، وهو عبارة عن معمل افتراضي 3D، مثل الفيديو جيم ولكنه تعليمي تفاعلي، ليتمكن الطالب من عمل التجربة بنفسه. بدأنا برأس مال قدره 350 ألف دولار من أموال عائلية وشخصية، ثم أتي بعدها مستثمرين من الخارج، ولكننا مستمرون في العمل عن طريق أموال المشتركين التي تعتبر المصدر الأساسي لتحقيق الإيرادات للمشروع، حيث يدخل المعمل حوالي 60 ألف زائر يومياً فضلاً عن مشتركين من مؤسسات أخرى يقدر عددهم بحوالي 250 ألف زائر، وذلك بإشتراك شهري بباقات محددة لتناسب مقدرة كل مشترك. – على حد قولها –
يحل معمل " خديجة" الإفتراضي عدد من المعضلات أبرزها أن هناك تجارب تحتاج لأجهزة مُكلفة، واخرى لها عامل أمان معين، وهناك أيضا أعداد المستخدمين للمعمل التي تعتبر محدودة بالنسبة لعدد الدراسين، كما أن معظم دول العالم بدأت تهتم بالاستثمار في التعليم الإلكتروني لأن التجارب أثبتت أن تلك التقنيات تتيح استفادة أكبر عدد من الطلاب، في أي وقت ومكان، فضلاً عن أن هناك دراسات علمية وجدت أن التعليم باستخدام المعامل الافتراضية يحسن من أداء الطلاب بنسبة 60% و يرفع مدى استيعابهم بنسبة 80%.
وعن رأيها في حجم الاستثمار في العلوم التقنية بمصر تقول: "بدأ ينمو خلال الفترة الأخيرةK وهناك استثمارات من شركات تعليمية وصناديق رأس مال ولكن ... هناك الكثير من المستثمرين يخافون من الدخول بذلك المجال، حيث أن العائد يحتاج لوقت للظهور، ولكن تلك المشاريع لها عائد اجتماعي هام يحتاج للمستثمر الذي يؤمن به، وهو ما يتسبب في التأخير بتنفيذ بعضها". أضافت: "المشاريع التقنية العلمية يمكن بالطبع ان تؤثر بالإيجاب على الاقتصاد الوطني، فالعمل في مجال العلوم هو المستقبل ويحل العديد من المشاكل ويخلق العديد من الابتكارات بمختلف المجلات، فالدول المتقدمة وصلت لمكانتها عن طريق الاهتمام بالعلم والبحث العلمي، وإذا نظرنا لإفريقيا سنجد أن لديها موارد بشرية هائلة ولكنها تحتاج لتحسين نظامها التعليمي لتتقدم أكثر."
تحديات
بالرغم من تلك الفرص الهائلة التي يمتلكها ذلك القطاع الحيوي في مصر، إلا أنه يواجه عدد من العقبات التي يمكن أن تحد من انتشار التعليم التقني والبحوث العلمية التي تعتمد على الجانب التكنولوجي بصورة أساسية، فمثلاً بطء سرعة الإنترنت بعدد من المناطق يمثل تحدي يجب مواجهته، فضلاً عن تكلفته التي ربما لا يستطيع البعض تحملها، بالإضافة لأن تلك المشاريع التعليمية التكنولوجية لا يُقبل عليها العديد من المستثمرين أو المؤسسات التمويلية بصورة كبيرة.
وفي ذات السياق أبرز تقرير المنظومة الوطنية لتطوير ونقل التكنولوجيا في مصر، الصادر عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا ESCWA، في عام 2017، أهم العوامل التي تحد من نقل التكنولوجيا التعليمية والبحثية بمصر، كسوء فهم مهمة مؤسسات البحث؛ عدم تركيز الأنشطة البحثية في بعض معاهد البحوث؛ عدم وجود خطط للحوافز المستدامة للجامعات والباحثين لتسويق منتجاتها التقنية التعليمية والبحثية؛ الاختلافات في الأهداف والأطر الزمنية وجوانب المخاطر بين موفري التكنولوجيا، ومستخدميها؛ عدم رغبة الصناعة والشركات في الاستثمار في البحث والتطوير وميلها إلى تحقيق الربح باستخدام التكنولوجيات القديمة؛ عدم وجود حوافز للقطاع الخاص للمشاركة في البحث والتطوير؛ ضعف التواصل وتدفق المعارف والمعلومات بين الأوساط الأكاديمية والصناعة؛ بالإضافة للافتقار إلى التمويل المناسب من خاصة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة؛ كما أنه لا تسمح بعض المؤسسات البحثية بإنشاء الشركات الناشئة.
هناك مثال أخر لمؤسسة بحثية تعليمية استطاعت شق طريقها بالسوق المصري بذلك المجال وحققت نجاحات خلال سنوات قليلة، مركز نواة للأبحاث العلمية، وهو مركز أبحاث خاص متعدد التخصصات في مصر يعنى بالعلوم الطبية والطبيعية ، الذي يُمكن الباحث بالدخول الى المنصة الإلكترونية للشركة و تسجيل العينات المطلوب تحليلها، فتقوم المنصة بارسال الطلب إلى شركة الشحن، ومن ثم يتم نقل العينات من صاحب الطلب أيا كان موقعه لمقر مركز نواة ، حيث يقوم علماء المركز بإجراء الاختبارات المطلوبة، ثم إرسال النتائج إلكترونيا للعميل، وقد جمعت نواة حتى الآن استثمارات بقيمة 2 مليون دولار، وتستعد لإعلان جولة جديدة من الاستثمارات تتجاوز 10 مليون دولار.
يقول مؤسس نواة الدكتور "عمر صقر": "عندما عدت من سفري للخارج لاحظت أن الكثير من الزملاء الذين لم تتاح لهم فرصة السفر للدراسة بالخارج بالرغم من أنهم يمتلكون قدرات علمية ضخمة وغير مستغلة على النحو الأمثل، وان ما يعيق وصول مصر لمصاف الدول المتقدمة في العلم ليس ضعف العنصر البشري، وإنما هو ضعف الإمكانيات المتاحة نظراً لسعرها الباهظ وصعوبة تمويل جميع الجامعات بكل الأجهزة العلمية المطلوبة، و من هنا نشأت فكرة المعمل الحوسبي الذي يتيح للجميع فرصة إجراء الاختبارات والأبحاث العلمية عن بُعد
وعن حجم الاستثمار بمجال التعليم التقني والبحث العلمي التكنولوجي بمصر يشير "عمر" أنه لا يزال ضعيف للغاية مقارنة بباقي المجالات، قد يكون السبب وراء ذلك هو ضعف المردود على المدى القصير، وأن الاستثمارات حالياً موجهة للصناعات الأكثر سخونة كتكنولوجيا المدفوعات المالية والمواصلات، فالمستثمرين يجب أن يبدأوا في دراسة فرص الاستثمار في المجالات العلمية، والتي يكون فيها العائد مرتفعاً ولكن على مدى أطول بعض الشيء من المجالات الأخرى
وعن التحديات التي واجهته خلال رحلته مع "نواة" قال: "أبرز العقبات هي عدم تفهم البعض مبدئياً لطبية العمل الذي نقوم به، فضلاً عن صعوبة استيراد الأجهزة العلمية والكيماويات المعملية، كما أن صعوبة جمع الاستثمارات في هذه الصناعة وعزوف المستثمرين عنها مثلت عقبة رئيسية لنا".
لذلك دعا مؤسس "نواة" إلى الإهتمام بتحديث وتطوير المقررات العلمية و طرق التدريس التي لا تزال تعتمد بشكل كبير على الحفظ والتلقين ولا نغفل أن هناك ايضاً توجهاً ايجابياً بالتحديث لكنه لايزال في مراحله الأولى - بحسب تعبيره-، كما يجب تشجيع الإقبال على التعليم التقني، مع توفير التمويل اللازم لتطوير الأبحاث العلمية والاهتمام بتهيئة الظروف المناسبة للباحثين الذين تعدى عددهم 150 ألف باحث في قطاعات العلوم الطبية والطبيعية فقط.
لم يعد الاستثمار في التكنولوجيا التعليمية وما يتصل بها من مجالات البحث العلمي يعتبر رفاهية أو أمر يمكن تأجيله، ذلك المجال يعتبر قاطرة أساسية للنمو الاقتصادي والتنمية المجتمعية، حيث يرتبط ارتباطاً مباشراً برفع كفاءة ومهارات الطلاب والباحثين والعاملين، التي بدورها من شأنها أن تؤثر ايجابياً على أدائهم المهني والتعليمي، وهو ما يرفع من الكفاءة الإنتاجية والصناعية، ويساهم في جذب الاستثمارات وتوفير العديد من فرص العمل، أي أن الاستثمار في التقنيات التعليمية المتطورة وتشجيع الشركات الناشئة للدخول بذلك المجال ومساندتها أصبح جزء أساسي من رفع كفاءة الاقتصاد القومي وتطويره.